" صفحة رقم ٣٥٤ "
والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلَّل إنكار ظنه إن لم يره أحد. وذِكْر الشفتين مع اللسان لأن الإِبانة تحصل بهما معاً فلا ينطق اللسان بدون الشّفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون : ينطق بلساننٍ فصيح، ويقولون : لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة النطق.
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإِبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكرَ إلى النظر والبحث وذلك قوله :( وهديناه النجدين ).
فاستكمل الكلامُ أصول التعلُّم والتعليم فإن الإِنسان خُلق محباً للمعرفة محباً للتعريف فبمشاعر الإِدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يَعْلَمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.
والشفتان هما الجِلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يُمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.
وأصل شفة شَفَو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل : أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعُوضَ عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشِفاه. والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفاً في حالة الوصل فقالوا : شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا : شفوين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله.
والهداية : الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه.
والنجد : الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان، والطريق قد يكون مُنجداً مصعداً، وقد يكون غوراً منخفضاً.


الصفحة التالية
Icon