" صفحة رقم ٥٨٢ "
ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة.
ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله :( ولا أنتم عابدون (، أي ما أنتم بمغيِّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدِئوا هُم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي ( ﷺ ) سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ.
وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيئه ( ﷺ ) بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نظير قوله تعالى :( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( ( البقرة : ٢٤ ) فإن أولئك النفر الأربعة لم يُسلم منهم أحد فماتوا على شركهم.
ومَا صدقُ ) ما أعبد ( هو الله تعالى وعبر ب ) ما ( الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص ( مَن ) بالعاقل، فلا مانع من إطلاق ( ما ) على العاقل إذا كان اللبس مأموناً. وقال السهيلي في ( الروض الأنف ) : إن ( ما ) الموصولة يؤتى بها لقصد الإِبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب : سبحان ما سَبَّح الرعد بحمده، وقوله تعالى :( والسماء وما بناها ( كما تقدم في سورة الشمس.
عطف على ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ( الكافرون : ٣ ) عطفَ الجملة على الجملة لمناسبة نفي أو يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم، وعطفُه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيدَ ) لا أعبد ما تعبدون ( فجاء به على طريقة :( ولا أنتم عابدون ما أعبد ( بالجملة الإسمية. للدلالة على الثبات، وبكَون الخبر اسم فاعل دالاً على زمان الحال، فلما نفَى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله :( لا أعبد ما تعبدون ( كما تقدم آنفاً، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال، بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان، فاقتضى الاعتمادَ على دلالة المنطوق إطناباً في الكلام، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات. وحصل من ذلك تقرير


الصفحة التالية
Icon