" صفحة رقم ٦٣٥ "
و ) مِن ( في قوله :( من الجنة والناس ( بيانية بينَتْ ) الذي يوسوس في صدور الناس ( بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته، ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنّة وهو أصله، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول، وجمَع الله هذين الصنفين في قوله :( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ( ( الأنعام : ١١٢ ).
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاءُ ما ينجرّ من وسوسة نوع الإِنسان، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطراً وهم بالتعوذ منهم أجدر، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.
ولا يستقيم أن يكون ) من ( بياناً للناس إذ لا يطلق اسم ) الناس ( على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبْعَدَ.
وقُدم ) الجنة ( على ) الناس ( هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى :( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن ( ( الأنعام : ١١٢ ) لأن خُبثاء الناس أشد مُخالطة للأنبياء من الشياطين، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى :( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ( ( الحجر : ٤٢ ) فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره، قال تعالى :( وإذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماركين ( ( الأنفال : ٣٠ ) ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.
والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسيّ للواحد من الإِنس.
وتكرير كلمة ) الناس ( في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلاهيته للناس كلهم


الصفحة التالية
Icon