" صفحة رقم ١٥٢ "
الرابع : أنّ فيه إيماء إلى أنّ الله قد نجّى أمّة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذّب به الأمم المكذّبةَ رسلها من قبل، وذلك ببركة النبي محمد ( ﷺ ) إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى :( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ( ( الأنبياء : ١٠٧ )، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذّبيه قضاء عاجلاً بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به، كما رجا رسول الله ( ﷺ ) ولذلك لمّا قالوا :( اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ( الأنفال : ٣٢ ) قال الله تعالى ) وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ( ( الأنفال : ٣٣ ). وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجاً، وأيّد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض. وإذ قد قدّر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين، لأنّ الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوتْه مكة من مشرك ومسلم، ثم يحشرون على نيّاتهم، كما ورد في الحديث لمّا قالت أمّ سلمة لرسول الله ( ﷺ ) ( أنهلك وفينا الصالحون، قال : نعم، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نيّاتهم ). فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان. وقد استعاذ رسول الله ( ﷺ ) لمّا نزل عليه ) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ( فقال :( أعوذ بسبحات وجهك الكريم ).
ومعنى ) كتب ( تعلّقت إرادته، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلّقة تعلّقاً عامّاً مطّرداً بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصّاً بالنسبة إلى الأزمان والجهات. فلما كان ذلك مطّرداً شبّهت إرادته بالإلزام، فاستعير لها فعل ( كتب ) الذي هو حقيقة في الإيجاب، والقرينة هي مقام الإلهية، أو جعَل ذلك على نفسه لأنّ أحداً لا يُلزم نفسه بشيء إلاّ اختياراً وإلاّ فإنّ غيره يُلزمه. والمقصود أنّ ذلك لا يتخلّف كالأمر الواجب المكتوب، فإنّهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه، كما قال الحارث بن حلّزة :
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدّم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء