" صفحة رقم ١٠١ "
سنذكره، ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهليّة قبل عبد المطّلب أو أنّه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابَع عليه. ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أيمّة الشّرك لقومهم، إذ لم يكونوا يصدرون إلاّ عن رأيهم، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءَهم، ومن معرّة الفاقة والسباء، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا، كما أشار إليه ( الكشاف ) إذ قال :( والمعنى أنّ شركاؤهم من الشّياطين أو من سدنة الأصنام زيَّنوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو بالنّحر ). وقال ابن عطيّة : والشّركاء على هذه القراءة هم الّذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون.
وفي قصّة عبد المطّلب ما يشهد لذلك فإنَّه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور، ثمّ بلغوا معه أن يمنعوه من عدوّه، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة، فلمّا بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دَعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند ( هُبل ) الصّنم وكان ( هبل ) في جوف الكعبة، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين ( إساف ) و ( نائلة ) فقالت له قريش : لا تذبحْه حتّى تُعذِر فيه، فإن كان له فداء فديناه، وأشاروا عليه باستفتاء عَرّافة بخيبرَ فركبوا إليها فسألوها وقصّوا عليها الخبر فقالت : قَرّبوا صاحبكم وقَرّبوا عشراً من الإبل ثمّ اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجتْ على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتّى يرضى رَبّكم، وكذلك فعلوا فخرج القِدح على عبد الله، فلم يزل عبد المطلب يزيد عشراً من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القِدح على عبد الله حتّى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القِدح على الإبل فنحرها. ولعلّ سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرّب إلى أصنام بعض القبائل ( كما كانت سنّة موروثة في الكنعانيين من نَبط الشّام يقرّبون صبيانهم إلى الصنم ملوك، فتكون إضافة القتل إلى الشّركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها.
" صفحة رقم ١٠١ "
وقوله :( بغير حق ( صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ.
وعطف ) البغي ( على ) الإثم ( من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة، قال سوار بن المضرِّب السّعدي :
وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب
إذا لم أجْننِ كنت مِجَنَّ جان
والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر.
و ) ما لم ينزّل به سلطانا ( موصول وصلته، و ( مَا ) مفعول ) تشركوا بالله (، والسّلطان البرهان والحجّة، والمجرور في قوله :( به ( صفة ل ) سلطانا (، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى :( من إن تأمنه بقنطار ( ( آل عمران : ٧٥ ) أي سلطاناً عليه، أي دليلاً. وضمير ( به ) عائد إلى ( ما ) وهو الرابط للصّلة. فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء : نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها. وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفيِ معذرتهم في الإشراك، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم : أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل : هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطاناً واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام، ولا ما قفاه عليه صاحب ( الانتصاف ) من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرىء القيس :
على لا حبٍ لا يُهتدَى بمناره


الصفحة التالية
Icon