" صفحة رقم ١٠٧ "
والحِجْر : اسم للمحجّر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار، ولذلك قال :( لا يطعمها إلا من نشاء ).
وقوله :( بزعمهم ( معترض بين ) لا يطعمها إلاّ من نشاء ( وبين :( وأنعام حرمت ظهورها ). والباء في :( بزعمهم ( بمعنى ( عن )، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنَّهم لمّا قالوا :( لا يطعمها ( لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم. وإنَّما أرادوا بالنَّفي نفي الإباحة، أي لا يحلّ أن يطعمها إلاّ من نشاء، فالمعنى : اعتقدوها حراماً لغير من عيّنوه، حتّى أنفسهم، وما هي بحرام، فهذا موقع قوله :( بزعمهم ). وتقدّم القول على الباء من قوله :( بزعمهم ( آنفاً عند قوله تعالى :( فقالوا هذا لله بزعمهم ( ( الأنعام : ١٣٦ ).
والصّنف الثّاني : أنعام حُرّمت ظهورها، أي حُرّم ركوبها، منها الحامي : لا يَركبه أحد، وله ضابط متّبع كما تقدّم في سورة المائدة، ومنها أنعام يحرّمون ظهورها، بالنّذر، يقول أحدهم : إذا فعلتْ النّاقةُ كذا من نسللٍ أو مواصلة بين عِدة من إناث، وإذا فعل الفحل كذا وكذا، حَرم ظهره. وهذا أشار إليه أبو نواس في قوله مادحاً الأمين :
وإذا المَطيُّ بنا بلغّن محمداً
فظهورهن على الرجال حرام
فقوله :( وأنعام حرمت ظهورها ( معطوف على :( أنعام وحرث حجر ( فهو كخبر عن اسم الإشارة. وعُلم أنَّه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف الّتي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه. والتّقدير : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرّمت ظهورها
" صفحة رقم ١٠٧ "
وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ، حتّى نزل في القرآن على محمد ( ﷺ ) فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم.
وإذا كان ذلك متعيّناً في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية، فشد به يدك. ولا تعبأْ بمن حَرَدك.
فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً. كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد، تعظيماً له، كما في قوله تعالى :( وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ( ( الفرقان : ٣٧ ) أي كذّبوا رسوله نُوحا، وقوله :( كذبت قوم نوح المرسلين ( ( الشعراء : ١٠٥ ) وله نظائر كثيرة في القرآن.
وهذه الآية، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة :( وكم من قرية أهلكناها ( ( الأعراف : ٤ ) الآية اتّصال التّفصيل بإجماله.
أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السّابق :( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ( ( الأعراف : ٢٧ ) وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله :( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( ( الأعراف : ١٦ ) الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله :( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( ( الأعراف : ٢٧ ) عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز