" صفحة رقم ١١٠ "
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها، كما تقدّم، أو إلى الأنعام المذكورة قبل. ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة : إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله :( وإن يكن ميتة ( وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة : يشربها الرّجال دون النّساء، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها، وروي عن ابن عَبّاس، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها.
والخالصة : السّائغة، أي المباحة، أي لا شائبةَ حَرج فيها، أي في أكلها، ويقابله قوله :( ومحرم ).
وتأنيث ) خالصة ( لأنّ المراد بمَا الموصولة ) الأجِنَّة ( فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير ) محرّم ).
والمحرّم : الممنوع، أي ممنوع أكله، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء.
والأزواج جمع زوج، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع. وقد تقدّم عند قوله تعالى :( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة في سورة البقرة ( ٣٥ ).
" صفحة رقم ١١٠ "
من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين، ومثلُه قوله تعالى :( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( ( يونس : ٦٢ ٦٤ ).
وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ، ولو فتح مثله لصحّ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع :( زوجي كَلَيْللِ تِهامَه، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه ) فقد روي بالرّفع وبالفتح.
و ( على ) في قوله :( فلا خوف عليهم ( للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله :( ولا هم يحزنون ( جملة عطفت على جملة :( فلا خوف عليهم (، وعُدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حَزَنٌ، إلى الجملة : ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم، وهم الذين كفروا. فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو : ما أنا قُلْتُ هذا، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره، وعليه بيت ( دلائل الإعجاز )، ( وهو للمتنبّي ) :
وما أنا أسقمت جسمي به
ولا أنا أضرَمْتُ في القلب ناراً
فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون.


الصفحة التالية
Icon