" صفحة رقم ١٢٣ "
عند قوله تعالى :( ولا تأكلوها إسرافاً في سورة النّساء ( ٦ ). وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف، وهو نهي إرشاد وإصلاح، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( ( الأعراف : ٣١ ). والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ.
وقيل عطف على ) وآتوا حقه ( أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك.
وقوله :( إنه لا يحب المسرفين ( استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف. وأكّد ب ) إنّ ( لزيادة تقرير الحكم، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبّة مختلف المراتب، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود.
ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله :( إنَّه لا يحبّ المسرفين ( تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه، ليعينوه في إسراف حرام، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه.
" صفحة رقم ١٢٣ "
قال تعالى في الآية الآخرى :( يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ( ( سبأ : ٣١ ).
وفعل :( قال ( حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات، والتّنوينُ في قوله :( لكلّ ( عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتّقدير : لكلّ أمّة، أو لكلّ طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى، يزيدونهم طغياناً وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه.
والاستدراك في قوله :( ولكن لا تعلمون ( لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب : أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا، والمعنى : أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال. ومفعول ) تعلمون ( محذوف دلّ عليه قوله :( لكللٍ ضِعف (، والتّقدير : لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم.
وقرأ الجمهور :( لا تَعلمون ( بتاء الخطاب على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون