" صفحة رقم ١٢٤ "
فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات، فيكون ذلك دأبه، فربَّما ضاق عليه ماله، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة. وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة. فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة. ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً :( لاَ خَيْرَ في السَّرف، ولا سرف في الخير ) وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( ٣١ ) :( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( ( الأعراف : ٣١ ) وقول النَّبيء ( ﷺ ) ( ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال ).
٢ ) ) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ).
عُطف :( حمولة ( على :( جنات معروشات ( ( الأنعام : ١٤١ ) أي : وأنشأ من الأنعام حمولة وفَرْشاً، فينسحب عليه القصر الّذي في المعطوف عليه، أي هو الّذي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً لا آلهة المشركين، فكان المشركون ظالمين في جعلهم للأصنام حقّاً في الأنعام.
و ( مِنْ ) في قوله :( ومن الأنعام ( ابتدائيّة لأنّ الابتداء معنى يصلح
" صفحة رقم ١٢٤ "
بمنزلة التّذييل خطاباً لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفاً فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين.
وعُطفتْ جملة :( وقالت أولاهم لأخراهم ( على جملة :( قالت آخراهم لأولاهم ( لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة.
والفاء في قولهم :( فما كان لكم علينا من فضل ( فاء فصيحة، مرتبة على قول الله تعالى ) لكل ضعف ( حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب. و ( مَا ) نافية. و ( مِنْ ) زائدة لتأكيد نفي الفضل، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله :( لكل ضعف ( لا
وقوله :( فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عَطَفوا قولهم :( ذوقوا العذاب ( على قولهم :( فما كان لكم علينا من فضل ( بفاء العطف الدّالة على التّرتب. فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً.
وصيغة الأمر في قولهم :( فذوقوا ( مستعملة في الإهانة والتشفّي.
والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس، وقد تقدّم نظائره غير مرّة.
والباء سببيّة، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب.