" صفحة رقم ١٢٦ "
أثاثاً ومتاعاً إلى حين ( ( النحل : ٨٠ )، وقال :( والأنعام خلقها لكم فيها دِفْءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم ( ( النحل : ٥ ٧ ) الآية، ولأنَّهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها.
ولفظ ) فرشا ( صالح لهذه المعاني كلّها، ومحامله كلّها مناسبة للمقام، فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأنّ لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فالحمولة الإبل خاصّة، والفَرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصّالحة لكلّ نوع مع ضميمته إلى كلمة ( من ) الصالحة للابتداء.
فالمعنى : وأنشأ من الأنعام ما تحملون عليه وتركبونه، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصّغيرة، وما تأكلونه وهو البقر والغنم، وما هو فرش لكم وهو ما يُجزّ منها، وجلودها. وقد علم السّامع أنّ الله لمّا أنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام فقد أنشأ الأنعام أيضاً، وأول ما يتبادر للنّاس حين ذكر الأنعام أن يتذكّروا أنَّهم يأكلون منها، فحصل إيجاز في الكلام ولذلك عقّب بقوله :( كلوا مما رزقكم الله ).
وجملة :( كلوا مما رزقكم الله ( معترضة مثل آية :( كلوا من ثمره إذا أثمر ( ( الأنعام : ١٤١ ). ومناسبة الأمر بالأكل بعد ذكر الأنعام : أنَّه لمّا كان قوله :( وفرشا ( شيئاً ملائماً للذّبح، كما تقدّم، عقّب بالإذن بأكل ما يصلح للأكل منها. واقتصر على الأمر بالأكل لأنَّه المقصود من السّياق إبطالاً لتحريم ما حرّموه على أنفسهم، وتمهيداً لقوله :( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( فالأمر بالأكل هنا مستعمل في النَّهي عن ضدّه وهو عدم الأكل من بعضها، أي لا تحرّموا ما أحلّ لكم منها اتّباعاً لتغرير الشّيطان بالسوسوسة لزعماء المشركين الّذين سنّوا لهم تلك السّنن الباطلة، وليس المراد بالأمر الإباحة فقط.
وعدل عن الضّمير بأن يقول : كلوا مِنها : إلى الإتيان بالموصول،
" صفحة رقم ١٢٦ "
ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائداً إلى إحدى الطّائفتين المتحاورتين في النّار، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذاناً بما تومىء إليه الصّلة من وجه بناءِ الخبر، أي : إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفاً.
والسّماءُ أطلقت في القرآن على معاننٍ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير الأرضيّة، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مَراتب وفيها عوالم القُدس الإلهيّةُ من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة، ومصدرُ إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي، ومصدَرُ المقادير المقدّرة قال تعالى :( وفي السماء رزقكم وما توعدون ( ( الذاريات : ٢٢ )، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس.
وأبوابُ السّماء أسبابُ أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال، ومسالكُ وصول الأمور الخيّريّة الصّادرة من أهل الأرض، وطرق قبولها، وهو تمثيل لأسباب التّزكية، قال تعالى :( والعمل الصالح يرفعه ( ( فاطر : ١٠ )، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلاّ الله تعالى، لأنّها محجوبة عنّا، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وَرَدُوا المكان قد يُقبلون ويُرضى عنهم فتُفْتَح لهم أبواب القصور والقباب ويُدخلون مُكرّمين، وقد يردّون ويُسخطون فتوصد في وجوههم الأبوابُ، مُثِّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدمُ الرّضا عنهم في سائر الأحوال، بحال من لا تفتَح له أبواب المنازل، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء، وعدم قبول الأعمال والعبادات، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها، فقوله :( لا نفتح لهم أبواب السماء ( كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة، وإن كانوا ينالون من نِعم


الصفحة التالية
Icon