" صفحة رقم ١٣ "
ل ) يقترفون ( مفعولاً لأنّه لا يكون إلاّ اكتساب الشرّ، ولم يقل : سيُجزْون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم. يقال : قرف واقترف وقارف. وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم. وحكوا أنَّه يقال : قَرف فلان لِعِيالِه، أي كسب، ولا أحسبه صحيحاً.
وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسميّة في قوله :( ما هم مقترفون ( للدلالة على تمكّنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه.
٤ ) ) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى
أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ).
استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله ( ﷺ ) بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى :( لا نفرّق بين أحد من رسله ( ( البقرة : ٢٨٥ ) أي يقولون. وقوله المتقدّم آنفاً ) قد جاءكم بصائر من ربكم ( ( الأنعام : ١٠٤ ) بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين، وتكذيبهم. وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكَماً بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه، وأمر رسوله ( ﷺ ) بالإعراض عنهم وتركِهم وما يفترون، وأعلمَه بأنَّه ما كلَّفه أن يكون وكيلاً لإيمانهم، وبأنَّهم سيَرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كلّه لَقَّن الله رسوله ( ﷺ ) أن يخاطبهم خطاباً كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكماً بينه وبينهم غير الله تعالى، الّذي إليه مرجعهم،
" صفحة رقم ١٣ "
الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه، وقد ذكَر في ( مغني اللّبيب ) دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة.
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشرح صدرك به. ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء ( ﷺ ) ليكون النّهي نهي تكوين، بمعنى تكوين النّفي، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات. مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب، عن الحصول في المكان. وجَعَل صاحب ( الكشاف ) النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي ( ﷺ ) أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن، والغمّ من صنيعهم، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب :( لاَ أرَيَنَّكَ ههنا ) أي لا تحضر فأراك، وقولهم :( لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا ) أي لا تفعلْه فأعرّفَك به، نهياً بطريق الكناية، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله :( كتاب (، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.
و ( مِنْ ) ابتدائيّة، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور، أي من تكذيب المكذّبين به، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه، وهو سبب الحرج، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة. والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار، بحيث


الصفحة التالية
Icon