" صفحة رقم ١٥ "
وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى :( أفغيرَ دين الله يبغون في سورة آل عمران ( ٨٣ ).
وقوله : وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ( من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه. وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلَموا منه صدقي، وأنّ القرآن من عند الله. وقد صيغت جملة الحال على الاسميّة المعرَّفةِ الجزأيْن لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر. فالمعنى : والحال أنّه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره، ونكتة ذلك أنّ في القرآن دلالة على أنّه من عند الله بما فيه من الإعجاز، وبأُمِّيَّةِ المنزّل عليه. وأنّ فيه دلالة على صدق الرّسول عليه الصلاة والسلام تبعاً لثبوت كونه منزّلا من عند الله، فإنَّه قد أخبر أنَّه أرسل محمّدا ( ﷺ ) للنّاس كافَّة، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به ؛ فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدّلالة على الأمرين : أنَّه من عند الله، والحكممِ للرسول عليه الصّلاة والسّلام بالصّدق.
والمراد بالكتاب القرآن، والتعريف للعهد الحضوري، والضمير في ) إليكم ( خطاب للمشركين، فإنّ القرآن أُنزل إلى النّاس كلّهم للاهتداء به، فكما قال الله :( بما أنزل إليك أنزله بعلمه ( ( النساء : ١٦٦ ) قال :( يأيُّها النّاس قد جاءكم بُرْهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ( ( النساء : ١٧٤ ) وفي قوله :( إليكم ( هنا تسجيل عليهم بأنَّه قد بلّغهم فلا يستطيعون تجاهلاً.
والمفصّل المبيَّن. وقد تقدّم ذكر التّفصيل عند قوله تعالى :( وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين في هذه السورة ( ٥٥ ).
وجملة والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل ( معطوفة على القول المحذوف، فتكون استئنافاً مثله، أو معطوفة على جملة ) أفغير الله أبتغى ( أو على
" صفحة رقم ١٥ "
أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول ( ﷺ ) وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم، كلٌ يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم، فوصْفُ ( الرب ) هنا دون اسم الجلالة : للتّذكير بوجوب اتّباع أمره، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله :( قليلاً ما تذكرون ).
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماششٍ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعاً ومتوبعاً، يقال : اتَّبع وتَبِع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو :( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري ( ( طه : ٩٢، ٩٣ ) وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو :( ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان ( ( البقرة : ١٦٨ ) وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى :( إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ ( ( الأنعام : ٥٠ )، ومنه قوله هنا :( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ).
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله :( كتاب أنزل إليك ( ( الأعراف : ٢ ).
وقوله :( ولا تتبعوا من دونه أولياء ( تصريح بما تضمّنه :( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له، وأنّه الولي، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم، وغيرَ ذلك من آي القرآن ؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم، وتسجيلاً على المشركين، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، فإنّهم كانوا يموهون


الصفحة التالية
Icon