" صفحة رقم ١٦ "
جملة ) وهو الذي أنزل إليكم الكتاب (، فهو عطف تلقين عُطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام المنسوب إلى النبي ( ﷺ ) تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي ( ﷺ ) من كون القرآن حقّاً، وأنّه من عند الله.
والمراد بالَّذين آتاهم الله الكتابَ : أحبار اليهود، لأنّ الكتاب هو التّوراة المعروف عند عامّة العرب، وخاصّة أهلُ مكَّة، لتردّد اليهود عليها في التّجارة. ولتردّد أهل مكّة على منازل اليهود بيَثرب وقُراها ولكون المقصود بهذا الحكم أحبارَ اليهود خاصّة قال :( آتيناهم الكتاب ( ولم يقل : أهلُ الكتاب.
ومعنى علم الّذين أوتوا الكتاب بأنّ القرآن منزّل من الله : أنَّهم يجدونه مصدّقاً لما في كتابهم، وهم يعلمون أنّ محمّداً ( ﷺ ) لم يَدرس كتابهم على أحد منهم، إذ لو درسه لشاع أمْرُه بينهم، ولأعلنوا ذلك بين النّاس حين ظهور دعوته. وهم أحرص على ذلك، ولم يَدّعوه. وعلمُهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأنّ العناد والحسد يصدّانهم عن ذلك. وقيل : المراد بالَّذين آتاهم الله الكتاب : مَن أسلموا من أحبار اليهود. مثل عبدا لله بن سلاَم. ومُخَيْرِيق، فيكون الموصول في قوله :( والذين آتيناهم الكتاب ( للعهد. وعن عطاء :( والذين آتيناهم الكتاب ). هم رؤساء أصحاب محمّد ( ﷺ ) أبو بكر، وعُمر، وعثمانُ، وعليّ. فيكون الكتابُ هو القرآن.
وضمير ) أنَّه ( عائد إلى الكتاب الّذي في قوله :( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ( وهو القرآن.
والباء في قوله ) بالحق ( للملابسة، أي ملابساً للحقّ. وهي ملابسة الدّالّ للمدلول، لأنّ معانيه، وأخباره، ووعده، ووعيده، وكلّ ما اشتمل عليه، حقّ.
" صفحة رقم ١٦ "
بمثل ذلك، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم :( لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك ) فموقع قوله :( اتبعوا ما أنزل إليكم ( موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع ) ولا تتبعوا ( موقع الفصل المانع في الحَدّ.
والأولياء جمع ولي، وهو المُوالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على النّاصر، والحليف، والصاحب الصّادق المودّة، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالى :( أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي ( ( الشورى : ٩ ) وقد تقدّم عند قوله تعالى :( قل أغير الله أتّخذ ولياً في سورة الأنعام ( ١٤ )، وهذا هو المراد هنا.
والاتّباع في قوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء ( يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله :( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( وذلك على تقدير : لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها، كما تقدّم عند قوله تعالى :( وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ( ( الأنعام : ١٣٧ )، وقوله :( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا كما في سورة الأنعام ( ١٣٦ )، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله : أولياء ( أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم.
ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتّبع زلة فلان. وفي الحديث :( يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر ) أي يتطلبها.
و ( مِنْ ) في قوله :( من دونه ( ابتدائيّة، و ( دون ) ظرف للمكان المجاوز المنفصل، وقد جرّ بمن الجارة للظروف، وهو استعارة للترك والإعراض.


الصفحة التالية
Icon