" صفحة رقم ١٧ "
وقرأ الجمهور ) مُنْزَل ( بتخفيف الزاي وقرأ ابن عامر وحفص بالتّشديد والمعنى متقارب أو متّحد، كما تقدّم في قوله تعالى :( نزّل عليك الكتاب بالحقّ في أوّل سورة آل عمران ( ٣ ).
والخطاب في قوله : فلا تكوننّ من الممترين ( ( البقرة : ١٤٧ ) يحتمل أن يكون خطاباً للنبيء ( ﷺ ) فيكون التّفريع على قوله :( يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ( أي فلا تكن من الممترين في أنَّهم يعلمون ذلك، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر : هذا مَا لا شكّ فيه، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك، لأنّ غريباً اجتماعُ علمهم وكفرهم به، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن، ليعمّ كلّ من يحتاج إلى مثل هذا الخطاب، أي فلا تكوننّ أيُّها السّامع من الممترين، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله، فيكون التّفريع على قوله :( منزل من ربك بالحق ( أي فهذا أمر قد اتّضح. فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام، والمقصود من الكلام المشركون الممترون، على طريقة التّعريض، كما يقال :( إياكَ أعني واسمعي يا جارهْ ). ومنه قوله تعالى :( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ( ( الزمر : ٦٥ ). وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني.
وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلاً على القرينة، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة، صحّ أن يكون جميعها مقصوداً من الآية. لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها. وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع، ويجيء مثله في آيات كثيرة، وهو من خصائص القرآن.
٥ ) ) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).
" صفحة رقم ١٧ "
والمجرور في موضع الحال من فاعل ) تتّبعوا (، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَها دونه، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه، والحَلِف باسمه، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه، فيكون اتّباعاً من دون الله، فيدخل في النّهي، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم :( ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى ( ( الزمر : ٣ ) فقد جاء قوله :( ولا تتبعوا من دونه أولياء ( في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود.
وأفاد مجموع قوله :( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ( مفاد صيغة قصر، كأنّه قال : لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة :( ولا تتبعوا من دونه أولياء ( مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها على نحو قول السَّمَوْأل أوْ الحَارثي :
تَسيِلُ على حد الظُّبات نفوسنا
وليست على غير الظبَات تسيل
وجملة :( قليلاً ما تذكرون ( هي في موضع الحال من ) لا تَتَّبعوا (، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها، وليست مقيِّدَة للنّهي : لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر. ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً. ولفظ ( قليلاً ) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون، ويجوز أن يكون ( قليلاً ) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى :( فقليلاً ما يؤمنون ( ( البقرة : ٨٨ ) ( فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة ).
والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن.