" صفحة رقم ١٩ "
ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة :( والذين آتيناهم الكتاب ( ( الأنعام : ١١٤ ). فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله. والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العربُ : كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن ( الكلمات ) على الكتب السّماوية في قوله تعالى :( فآمِنوا بالله ورسوله النّبيء الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته ( ( الأعراف : ١٥٨ ) أي كتبه. وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات. أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه. واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من ) كلمات ربك ( بالجمع أو الإفراد القرآن، واستظهر أنّ المراد منها : قول الله، أي نفذ قوله وحكمه. وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال : كلمات الله وَعده. وقيل : كلمات الله : أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وفسّر به في ( الكشاف )، وهو قريب من كلام ابن عطيّة، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.
وانتصب ) صدقاً وعدلاً ( على الحال، عند أبي عليّ الفارسي، بتأويل المصدر باسم الفاعل، أي صادقة وعادلة، فهو حال من ) كلمات ( وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز، أي تمييز النّسبة، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل، فكأنّه قال : تَمّ صدقُها وعدلها، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطيّة : هذا غير صواب. وقلت : لا وجه لعدم تصويبه.
والصّدق : المطابقة للواقع في الإخبار : وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد، والنّفوذ في الأمر والنّهي، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق.
" صفحة رقم ١٩ "
عطف على جملة :( ولا تتّبعوا ( ( الأعراف : ٣ ) وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم. وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم.
وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى، دون ذكر الأمم كما في قوله :( فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( ( الحاقة : ٥، ٦ )، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل ) أهلكنا ( بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول، فهو مغن عن أدوات الشّمول، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية، ونظيرها قوله تعالى :( واسأل القرية التي كنا فيها ( ( يوسف : ٨٢ ) ونظيرهما معاً قوله :( ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ( ( الأنبياء : ٦ )، فكلّ هذا من الإيجاز البديع، والمعنى على تقدير المضاف، وهو تقدير معنى.
وأجرى الضّميران في قوله :( أهلكناها فجاءها بأسنا ( على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله :( أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم ( إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية، وهو ) بأسنا بياتاً ( لأنّ ( بياتاً ) متحمّل لضمير البأس، أي مبيِّتاً لهم، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال :( أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم ). و ( كم ) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام.
والإهلاك : الإفناء والاستئصال. وفعل ) أهلكناها ( يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه.