" صفحة رقم ٢١ "
عهدتُ بها حيّاً كراماً فبُدّلت
خنَاظِيل آجَاللِ النِّعَاج الجَوافل
ويكون في الصّفات كقوله تعالى :( وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا ( ( النور : ٥٥ ).
ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه، قال تعالى :( يريدون أن يبدّلوا كلام الله ( ( الفتح : ١٥ ) أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه، وهو قوله :( قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ( ( الفتح : ١٥ ). وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض. فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز. وقد تقدّم عند قوله تعالى :( فمن بدّله بعد ما سمعه في سورة البقرة ( ١٨١ ). وقد استعمل في قوله : لا مبدل لكلماته ( مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله :( وتمت كلمات ربك ( ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل.
فإن كان المراد بالكلمات القرآن، كما تقدّم، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته : انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام. فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض. وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون. وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته.
ويجوز أن تكون جملة :( وتمت كلمات ربك ( عطفاً على جملة :( جعلنا لكلّ نبيء عدوّا ( ( الأنعام : ١١٢ ) وما بينهما اعتراضاً، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره : من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويتبّعوهم، ويقترفوا السيئات، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق، ويكون قوله :( لا مبدل لكلماته ( نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره، كقوله :( فلن
" صفحة رقم ٢١ "
الله عليهم فيريد إهلاكهم، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة. والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه. ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف المفصّل على المجمل، وبذلك سمّاه ابن مالك في ( التّسهيل )، ومثَّل له بقوله تعالى :( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عُرباً ( ( الواقعة : ٣٥، ٣٧ ) الآية. ومنه قوله تعالى :( ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( ( الزمر : ٧٢ ) أو قوله ) فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ( ( البقرة : ٣٦ ) لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج، وقوله تعالى :( كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( ( القمر : ٥٤ ) وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه.
والبأس ما يحصل به الألم، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء، وقد مضى عند قوله تعالى :( والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس في سورة البقرة ( ١٧٧ )، والمراد به هنا عذاب الدّنيا.
واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهاً لحُلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام ( ٤٣ ).
والبيات مصدر بَات، وهو هنا منصوب على الحال من البأس، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم، أي جاءهم ليلاً، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلاً، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب، هي أشدّ على المغزوّ، فكان ترشيحاً للاستعارة التّمثيليّة، ويجوز أن يكون بياتاً ( منصوباً على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات.