" صفحة رقم ٢٣ "
لأوليائهم، وما طَمْأن به قلب الرّسول ( ﷺ ) من أنّه لقي سنّة الأنبياء قبلَه من آثار عداوة شياطين الإنس والجنّ، بذكر ما يهون على الرّسول ( ﷺ ) والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزّتهم، ومن قلّة المسلمين وضعفهم، مع تحذيرهم من الثّقة بقولهم، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم، وعدم الإصغاء إلى رأيهم، لأنَّهم يُضِلّون عن سبيل الله، وأمرِهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه. فجملة :( وإن تطع ( متّصلة بجملة :( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوّا شياطين الإنس والجنّ ( ( الأنعام : ١١٢ ) وبجملة :( أفغير الله أبتغي حكماً ( ( الأنعام : ١١٤ ) وما بعدها إلى :( وهو السميع العليم ( ( الأنعام : ١١٥ ).
والخطاب للنّبي ( ﷺ ) والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى :( لئن أشركت ليحبطنّ عملك ( ( الزمر : ٦٥ ).
وجيء مع فعل الشّرط بحرف ( إنْ ) الّذي الأصل فيه أن يكون في الشّرط النّادر الوقوع، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال، والظاهر أنّ المشركين لمّا أيسوا من ارتداد المسلمين، كما أنبأ بذلك قوله تعالى :( قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ( ( الأنعام : ٧١ ) الآية، جَعلوا يلقون على المسلمين الشُبه والشكوك في أحكام دينهم، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا :( وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإنْ أطعتموهم إنّكم لمشركون ( ( الأنعام : ١٢١ ). وقد روى الطّبري عن ابن عبّاس، وعكرمة : أنّ المشركين قالوا :( يا محمّد أخبرنا عن الشّاة إذا ماتَتْ مَنْ قَتلها ( يريدون أكل الشّاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح ) قال اللَّهُ قتَلها فتزعم أنّ ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلال وما قتل الكلبُ والصَقر حلال وما قتله الله حرام ) فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء وفي ( سنن التّرمذي )، عن ابن عبّاس قال :( أتى أناس النبي ( ﷺ ) فقالوا : يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل اللَّهُ )
" صفحة رقم ٢٣ "
يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين.
والمعنى : وكم من أهللِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء.
وقوله :( فما كان دعواهم ( يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله :( فجاءها بأسنا ( لأنّه من بقيّة المذكور، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.
والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله :( دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ ( ( يونس : ١٠ ) وهو كثير في القرآن، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.
ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ، فلم تبق لهم دعوى، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.
واقتصارهم على قولهم :( إنا كنا ظالمين ( إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو، فعوجلوا بالعذاب، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في


الصفحة التالية
Icon