" صفحة رقم ٢٤ "
فأنزل الله :( فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه ( ( الأنعام : ١١٨ ) الآية. قال التّرمذي : هذا حديث حسن غريب. فمن هذا ونحوه حَذّر الله المسلمين من هؤلاء، وثبّتهم على أنّهم على الحقّ، وإن كانوا قليلاً. كما تقدّم في قوله :( قل لا يستوي الخبيث والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( ( المائدة : ١٠٠ ).
والطاعة : اسم للطّوع الّذي هو مصدر طاع يطوع، بمعنى انقاد وفَعَل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة، فالطاعة ضدّ الكره. ويقال : طاع وأطاع، وتستعمل مجازاً في قبول القول، ومنه ما جاء في الحديث :( فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم )، ومنه قوله تعالى :( ولا شفيععٍ يُطاع ( ( غافر : ١٨ ) أي يُقبل قوله، وإلاّ فإنّ المشفوع إليه أرفع من الشفيع فليس المعنى أنّه يمتثل إليه. والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول.
و ) أكثر من في الأرض ( هم أكثر سكّان الأرض. والأرض : يطلق على جميع الكرة الأرضية الّتي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنّبات، وهي الدّنيا كلّها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضيّة معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى :( وقُلنا مِن بعده لبني إسرائيل اسكُنُوا الأرض ( ( الإسراء : ١٠٤ ) يعني الأرض المقدّسة، وقولِه :( أو يُنْفَوْا من الأرض ( ( المائدة : ٣٣ ) أي الأرض الّتي حاربوا الله فيها. والأظهر أنّ المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل : أريد بها مكّة لأنّها الأرض المعهودة للرّسول عليه الصلاة والسلام. وأيّاً مّا كان فأكثر من في الأرض ضالّون مضلّون : أمّا الكرة الأرضية فلأنّ جمهرة سكّانها أهل عقائد ضالّة، وقوانين غير عادلة.
فأهل العقائد الفاسدة : في أمر الإلهيّة : كالمجوس، والمشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة الكواكب، والقائلين بتعدّد الإلاه ؛ وفي أمر النّبوّة : كاليهود والنّصارى ؛
" صفحة رقم ٢٤ "
الحشر، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.
وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام، فمن اعتاد قول الخير نطق به، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.
والمراد بقولهم :( كنا ظالمين ( أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، وتكذيب الرّسل، والإعراض عن الآيات، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله، قال تعالى :( إنّ الشرك لظلم عظيم ( ( لقمان : ١٣ )، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله :( ولا تتبعوا من دونه أولياء ( ( الأعراف : ٣ ) أي أنّ الله لم يظلمهم، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون، من قبل نزول العذاب، وكانوا مصرين عليه ومكابرين، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم، فيكون الكلام، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً.
وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد، مثل الويل والثّبور، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي، أو يقوله بعضهم لبعض، بينهم، على معنى التّوبيخ،


الصفحة التالية
Icon