" صفحة رقم ٢٥ "
وأهلُ القوانين الجائرة من الجميع. وكلّهم إذا أطيع إنَّما يدعو إلى دينه ونحلته، فهو مُضِلّ عن سبيل الله، وهم متفاوتون في هذا الضّلال كثرة وقلّة، واتّباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصّواب. والقليل من النّاس مَن هم أهل هدى، وهم يومئذ المسلمون، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحّدين الصّالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحقّ.
وسبب هذه الأكثرية : أنّ الحقّ والهدى يحتاج إلى عقوللٍ سليمة، ونفوس فاضلة، وتأمّل في الصّالح والضارّ، وتقديممِ الحقّ على الهوى، والرشدِ على الشّهوة، ومحبّة الخير للنّاس ؛ وهذه صفات إذا اختلّ واحد منها تطرّق الضّلال إلى النّفس بمقدار ما انثلم من هذه الصّفات. واجتماعها في النّفوس لا يكون إلاّ عن اعتدال تامّ في العقل والنّفس، وذلك بتكوين الله وتعليمه، وهي حالة الرّسل والأنبياء، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحقّ من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية وقد يسمّونها الذّوق. أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرّسل والأنبياء وخيرة أممهم ؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالّين وكان المهتدون قلّة، فمن اتبعهم أضلّوه.
والآية لم تقتض أنّ أكثر أهل الأرض مُضِلّون، لأنّ معظم أهل الأرض غير متصدّين لإضلال النّاس، بل هم في ضَلالهم قانعون بأنفسهم، مقبلون على شأنهم ؛ وإنَّما اقتضت أنّ أكثرهم، إنْ قَبِل المسلم قَولهم، لم يقولوا له إلاّ ما هو تضليل، لأنّهم لا يُلقون عليه إلاّ ضلالهم. فالآية تقتضي أنّ أكثر أهل الأرض ضالّون بطريق الالتزام لأنّ المهتدي لا يُضِلّ مُتبعه وكلّ إناء يرشح بما فيه. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية ( ١٠٠ ) سورة العقود :( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
واعلم أنّ هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين، لأنّ المجتهد
" صفحة رقم ٢٥ "
والتّوقيف على الخطأ، وإنشاء النّدامة، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح، والمعنى الكنائي، على نحو ما قرّرتُه آنفاً.
والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم، أو بين جماعتهم، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل.
واسم كان هو :( أن قالوا ( المفرغ له عمل كان، و ) دعواهم ( خبر ( كان ) مقدّم، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث، ولو كان :( دعوى ) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان، نحو قوله تعالى :( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ( ( الأعراف : ٨٢ ) ) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ( ( آل عمران : ١٤٧ ) وغير ذلك، وهو استعمال ملتزم، غريب، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ. واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً، كأنّ السّامع يسأل : ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس، فقيل له : كان قولهم :( إنا كنا ظالمين ( دعاءَهم، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء، وهذه نكتة دقيقة تنفعك


الصفحة التالية
Icon