" صفحة رقم ٢٧ "
كان بمعنى الإيقان بأنّ الله أمر أو نهى، فذلك نادر في معظم مسائل التّشريع، عدا ما علم من الدّين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحسّ، وهو خاصّ بما تلقّاه بعض الصّحابة عن رسول الله ( ﷺ ) مباشرة، أو حصل بالتّواتر. وهو عزيز الحصول بعد عصر الصّحابة والتّابعين، كما عُلم من أصول الفقه.
وجملة :( إن يتبعون إلا الظن ( استئناف بياني، نشأ عن قوله :( يضلوك عن سبيل الله ( فبيّن سبب ضلالهم : أنّهم اتَّبعوا الشّبهة، من غير تأمّل في مفاسدها، فالمراد بالظنّ ظنّ أسلافهم، كما أشعر به ظاهر قوله :( يتبعون ).
وجملة ) وإن هم إلا يخرصون ( عطف على جملة :( إن يتبعون إلا الظن ). ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيداً للجملة التي قبلها، أو تفسيراً لها، فتعيّن أنّ المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة :( إن يتبعون إلا الظن ).
وقد تردّدت آراء المفسّرين في محمل قوله :( وإن هم إلا يخرصون ( ؛ فقيل : يَخرصون يكذبون فيما ادّعوا أنّ ما اتَّبعوه يقين، وقيل : الظن ظنّهم أنّ آباءهم على الحقّ. والخرص : تقديرهم أنفسهم على الحقّ.
والوجه : أنّ محمل الجملة الأولى على ما تلقّوه من أسلافهم، كما أشعر به قوله :( يتبعون (، وأنّ محمل الجملة الثّانية على ما يستنبطونه من الزّيادات على ما ترك لهم أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلّة مفحمة، كقولهم :( كيف نأكل مَا قتلناه وقتله الكلب والصّقر، ولا نأكل ما قتله الله ) كما تقدم آنفاً، كما أشعر به فعل :( يخرصون ( من معنى التّقدير والتّأمّل.
" صفحة رقم ٢٧ "
جرم أن يسأل عن ذلك المُرسَل إليهم، ولمّا كان المقصود الأهمّ من السّؤال هو الأمم، لإقامة الحجّة عليهم في استحقاق العقاب، قُدّم ذكرهم على ذكر الرّسل، ولما تدُلّ عليه صلة ( الذي ) وصلة ( ال ) من أنّ المسؤول عنه هو ما يتعلّق بأمر الرّسالةِ، وهو سؤال الفريقين عن وقوع التّبليغ.
ولَمَّا دلّ على هذا المعنى التّعبيرُ : ب ) الذين أرسل إليهم ( والتّعبيرُ : ب ) المرسلين ( لم يحتجّ إلى ذكر جواب المسؤولين لظهور أنّه إثبات التّبليغ والبلاغ.
والفاء في قوله :( فلنقصن عليهم ( للتفريع والتّرتيب على قوله :( فلنسألن (، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ماأجمله جوابهم، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم، أي فعِلْمُنا غَنِي عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر.
وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكيرُ علم في قوله :( بعلم ( أي علم عظيم، فإنّ تنوين ( عِلم ) للتعظيم، وكمالُ العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة، وزاد ذلك بياناً قولُه :( وما كنا غائبين ( الذي هو بمعنى : لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه.
والقَصّ : الاخبار، يقال : قصّ عليه، بمعنى أخبره، وتقدّم في قوله تعالى :( يقص الحقّ ( في سورة الأنعام ( ٥٧ ).
وجملة :( وما كنا غائبين ( معطوف على ) فلنقصن عليهم بعلم (، وهي في موقع التّذييل.
والغائب ضدّ الحاضر، وهو هنا كناية عن الجاهل، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفاً، أي الجهالة بأحوال المَغيب عنه، فإنّها ولو بلغتْه


الصفحة التالية
Icon