" صفحة رقم ٢٨ "
والخَرْص : الظنّ الناشىء عن وِجدان في النّفس مستند إلى تقريب، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه، وهو يرادف : الحزرَ، والتّخمين، ومنه خرص النّخل والكرْم، أي تقدير ما فيه من الثّمرة بحسب ما يجده النّاظر فيما تعوّدهُ. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنّها ظنون لا دليل عليها غير ما حَسُن لظانِّيها. ومن المفسّرين وأهل اللّغة من فسّر الخرص بالكذب، وهو تفسير قاصر، نظرَ أصحابُه إلى حاصل ما يفيده السّياق في نحو هذه الآية، ونحو قوله :( قُتل الخرّاصون ( ( الذاريات : ١٠ ) ؛ وليس السّياق لوصف أكثر من في الأرض بأنّهم كاذبون، بل لوصمهم بأنَّهم يأخذون الإعتقاد من الدّلائل الوهميّة، فالخرص ما كان غير علم، قال تعالى :( ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون ( ( الزخرف : ٢٠ )، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ ( يكذبون ) أصرح من لفظ ) يخرصون ).
واعلم أنّ السّياق اقتضى ذمّ الاستدلال بالخرص، لأنّه حزر وتخمين لا ينضبط، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال :( أمرَ رسول الله ( ﷺ ) أن يخرص العنب كما يخرص التّمر ). فأخذ به مالك، والشّافعي، ومحمله على الرخصة تيسيراً على أرباب النّخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة، فتؤخذ الزّكاة منهم على ما يقدره الخرص، وكذلك في قسمة الثّمار بين الشّركاء، وكذلك في العَريَّة يشتريها المُعري ممن أعراه، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخاً.
٧ ) ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ).
تعليل لقوله :( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك ( ( الأنعام : ١١٦ ) لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالّين، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم. وكذلك شأن ( إنّ ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار : أن تفيد تأكيد
" صفحة رقم ٢٨ "
بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد، أي : وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم، لأنّنا مطّلعون عليهم، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيَّة في قوله تعالى :( وهو معكم أينما كنتم ( ( الحديد : ٤ ).
وإثباتُ سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى :( ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون ( ( القصص : ٧٨ ) وقوله ) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( ( الرحمن : ٣٩ ) لأنّ المسؤول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيَّ في الآيتين الآخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم، وهو الذي أريد هنا في قوله :( وما كنا غائبين ).
٨، ٩ ) ) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَ
ائِكَ الَّذِينَ خَسِرُو
اْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).
عطف جملة :( والوزن يومئذٍ الحق ( على جملة ) فلنقصن ( ( الأعراف : ٧ )، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتاً لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه، فلذلك عقبت جملة :( فلنقصن ( ( الأعراف : ٧ ) بجملة :( والوزن يومئذٍ الحق ( فكأنّه قيل : فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد.
والتّنوين في قوله :( يومئذٍ ( عوض عن مضاف إليه دلّ عليه :( فلنسألن


الصفحة التالية
Icon