" صفحة رقم ٢٩ "
الخبر ووصله بالّذي قبله، بحيث تغني غَناء فاء التّفريع، وتفيد التّعليل، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين، وهدى المهتدين، كان قوله :( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( تذييلاً لجميع تلك الأغراض.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله :( إن ربك ( لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّاً لهم. وقد قال أبو سفيان يوم أحُد :( لَنَا العُزّى ولا عُزّى لكم فقال رسول الله ( ﷺ ) أجيبوه قولوا :( اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم ).
و ) أعلمُ ( اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين، ولا أحد من المهتدين، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين.
والضّمير في قوله :( هو أعلم ( ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس، وكلّهم يعلم قصور علمه، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة.
و ) مَنْ ( موصولة، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله :( وهو أعلم بالمهتدين ( لأنّ أفعل التّفضيل
" صفحة رقم ٢٩ "
الذين أرْسِلَ إليهم ( ( الأعراف : ٦ ) وما عطف عليه بالواو وبالفاء، والتّقدير : يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم.
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلاً واتساعاً.
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين، وَاحِدُها ميزان أيضاً وتسمّى أوزاناً واحدها وَزْن، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى :( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( ( الكهف : ١٠٥ ) وفي حديث أبي هريرة، في ( الصّحيحين ) :( إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة ). ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال، كقول الراعي :
وَزَنَتْ أميَّةُ أمْرَها فدَعَتْ له
من لَمْ يكن غُمِراً ولا مَجهولاً
فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعييناً لا إجحاف فيه، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة، فيكون الجزاء على قدر العمل، فالوزن استعارة، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها، وذلك ممكن، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها.
والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات، لأنّها من خوارق المتعارف، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى