" صفحة رقم ٣٦ "
وحمزة، والكسائي، وخلف : بضمّ الياء على معنى أنَّهم يُضلّلون النّاس، والمعنى واحد، لأنّ الضالّ من شأنه أن يُضلّ غيره، ولأنّ المُضلّ لا يكون في الغالب إلاّ ضالاً، إلاّ إذا قصد التّغرير بغيره. والمقصود التّحذير منهم وذلك حاصل على القراءتين.
والباء في ) بأهوائهم ( للسببيّة على القراءتين. والباء في ) بغير علم ( للملابسة، أي يضلّون مُنقَادِين للهوى، مُلابسين لعَدم العلم. والمراد بالعلم : الجزم المطابق للواقع عن دليل، وهذا كقوله تعالى :( إن يتَّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخْرصون ( ( الأنعام : ١١٦ ). ومن هؤلاء قادة المشركين في القديم، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، أوّللِ من سنّ لهم عبادة الأصنام وبَحَّر البحيرة وسيَّب السائبة وحَمَى الحامِي، ومَن بعده مثل الّذين قالوا :( ما قتل اللَّهُ أولى بأن نأكله ممّا قتلنا بأيدينا ).
وقوله :( إن ربك هو أعلم بالمعتدين ( تذييل، وفيه إعلام للرّسول ( ﷺ ) بتوعّد الله هؤلاء الضالّين المضلين، فالإخبار بعلم الله بهم كناية عن أخذه إيَّاهم بالعقوبة وأنَّه لا يفلتهم، لأنّ كونه عالماً بهم لا يُحتاج إلى الإخبار به. وهو وعيد لهم أيضاً، لأنَّهم يسمعون القرآن ويُقرَأ عليهم حين الدّعوة. وذِكْرُ المعتدين، عقب ذكر الضالّين، قرينة على أنَّهم المراد وإلاّ لم يكن لانتظام الكلام مناسبة، فكأنَّه قال : إنّ ربّك هو أعلم بهم وهم معتدون، وسمّاهم الله معتدين. والاعتداء : الظلم، لأنَّهم تقلّدوا الضّلال من دون حجّة ولا نظر، فكانوا معتدين على أنفسهم، ومعتدين على كلّ من دَعوه إلى موافقتهم.
" صفحة رقم ٣٦ "
يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة، وهو غرض السورة، وذلك عند قوله تعالى :( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ( ( الأعراف : ٢٧ ) ومَا تلاه من الآيات، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة.
والخطاب للنّاس كلّهم، والمقصود منه المشركون، لأنّهم الغرض في هذه السورة.
وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله :( ولقد خلقناكم (، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه، وهو آدم، كما أفصح عنه قوله :( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ).
والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به.
والتّصوير جعل الشّيء صورة، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع.
وعطفت جملة ) صورناكم ( بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم، أم كان بعد الخلق بمدّة، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر، كقوله تعالى :( فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ( ( المؤمنون : ١٤ ).