" صفحة رقم ٤٠ "
الوارد على سبب خاصّ، فلا يخصّ بصورة السّبب، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة.
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال : أحدها : أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل ( وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه، ( وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر ) فهذه ذبيحة لا تؤكل. ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان، إعمالاً لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس. وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها، فقال مالك، في المشهور، وأبو حنيفة، وجماعة، وهو رواية عن أحمد : لا تؤكل. ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق.
الثّاني : قال الشّافعي، وجماعة، ومالك، في رواية عنه : تؤكل، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسداً للإباحة. وفي ( الكشاف ) أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه. وفي ( أحكام القرآن ) لابن العربي، عن إمام الحرمين : ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب، والذبحُ ليس بقربة. وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثماً. وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاءِ غير الله فحكمه حكم من سمَّى لِغير الله تعالى. وقيل : إنْ ترَك التّسميةَ عمداً يُكره أكلها، قاله أبو الحسن بن القصّار، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة. ولا يعدّ هذا خلافاً، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين. وقال أشهب، والطبرِي :
" صفحة رقم ٤٠ "
ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى :( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( ( ص : ٧٥ )، فلذلك كان ذكر ( لا ) هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتّأكيد، ولا تفيد نفياً، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد. و ( لاَ ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى :( لا أقسم بهذا البلد ( ( البلد : ١ ) وقوله ) لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله ( ( الحديد : ٢٩ ) أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً. وقوله تعالى :( وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون ( ( الأنبياء : ٩٥ ) أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً، وهذا تأويل الكسائي، والفراء، والزّجاج، والزّمخشري، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.
وقيل ( لا ) نافية، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه ) منعك ( لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد، فإمّا أن يكون ) منعك ( مستعملاً في معنى دعَاك، على سبيل المجاز، و ( لا ) هي قرينة المجاز، وهذا تأويل السكاكي في ( المفتاح ) في فصل المجاز اللّغوي، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه، وهو أحسن تأويلاً، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان، فذُكر أحدهما وحذف الآخر، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه.
وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى :( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني في سورة طه ( ٩٢، ٩٣ ).
وقوله : إذ أمرتك ( ظرف ل ) تسجد (، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له، إمّا لأنّه صنف من الملائكة، فخلق الله إبليس أصلاً