" صفحة رقم ٤٤ "
وقوله :( وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ( يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات. وقوله : كمن مثله في الظلمات تقديره : كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق ( مَن ) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ ( مثَل ) بمعنى حالة. ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله :( قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور ( ( الرعد : ١٦ ) وقوله ) أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون ( ( السجدة : ١٨ ). والكاف في قوله :( كمن مثله في الظلمات ( كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة :( أو من كان ميتاً ( إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة :( كمن مثله في الظلمات ( الخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين : أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين.
ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله :( كمن مثله ( مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة : في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية ؛ فنحا
" صفحة رقم ٤٤ "
المتكلّم والمخاطب، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث.
وقوله :( فما يكون لك أن تتكبر فيها ( الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلاً للأمر بالهبوط، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدّس، لأنّه قد صار خُلُقُه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له، وذلك خُلقُ التّكبر لأنّ المكان كان مكاناً مقدّساً فاضلاً لا يكون إلاّ مطهّراً من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله : لا تحْدِثوا بدعة في بلدنا. وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشّو الفساد بينهم.
ودلّ قوله :( ما يكون لك ( على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه، لأنّ النّفي بصيغة ( ما يكون لك ) كذا أشدّ من النّفي ب ( ليس لك كذا ) كما تقدّم عند قوله تعالى :( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية في آل عمران ( ٧٩ )، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ.
وقوله : فاخرج ( تأكيد لجملة ) فاهبط ( بمرادفها، وأُعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة.
وجملة :( إنك من الصاغرين ( يجوز أن تكون مستأنفة استينافاً بيانياً، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغراً حقيراً حيثما حلّ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال ( إنّ ) في مثل هذا