" صفحة رقم ٤٧ "
عطف على جملة :( كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون ( ( الأنعام : ١٢٢ ) فلها حكم الاستئناف البياني، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول ( ﷺ ) والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله ( ﷺ ) والمشار إليه بقوله :( وكذلك ( أولياء الشياطين بتأويل ) كذلك ( المذكور.
والمعنى : ومِثْل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعَلنا في كلّ قرية مضت أكابرَ يصدّون عن الخير، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشرّك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمَممِ الأخرى، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين، فإنَّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين.
فالجَعل : بمعنى الخلق ووضععِ السّنن الكونيّة، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع، وبخاصّة القُرى.
وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه، بخلاف أهل القرى، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم، ولهذا قال الله تعالى :( وممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق ( ( التوبة : ١٠١ ) فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً.
وقد يكون الجَعل بمعنى التّصيير، وهو تصيير خَلْق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا.
" صفحة رقم ٤٧ "
وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قُدم قد يفيد معنى قريباً من الشرطيّة، كما في قول النّبيء ( ﷺ ) ( كما تكونوا يُوَلَّى عليكم ) وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو ( يولى ) إلاّ بالألف في آخره على عدم اعْتبار الجزم. وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلِّق، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلَّق به، فالتّقديم للاهتمام، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافياً لتصدير لام القسم في جملتها، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب. وما مصدريّة، والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النّابغة :
قُعوداً لدى أبياتهم يَثْمدونهم
رمَى اللَّهُ في تلك الأكُف الكوانع
أي ملازمين أبياتاً لغيرهم يُرِد الجلوس، إذ قد يكونون يسألون واقفين، وماشين، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده، فيقعد الملازم طلباً للرّاحة، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القَعيد، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى :( إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ( ( ق : ١٧ ) أي ملازم إذ الملَك لا يوصف بقعود ولا قيام.
ولمّا ضمن فعل :( لأقعدن ( معنى الملازمة انتصب ) صراطك ( على المفعولية، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره : فامْنَعَنّ صراطك أو فَأقْطَعَنّ عنهم صراطك، واللاّم في لهم للأجل كقوله :( واقعدوا لهم كل مرصد ( ( التوبة : ٥ ).
وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللاّم أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقاً لك، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره، وهو فعل الخيرات، وترك السيّئات، فالكلام تمثيلُ هيئة العازمين على فعل الخير، وعزمهم عليه، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه.


الصفحة التالية
Icon