" صفحة رقم ٥٣ "
قال : زاحمَنا ( يعني بني مخزوم ) بنو عبد مناف في الشّرف، حتّى إذا صرنا كفَرسَيْ رِهاننٍ قالوا : مِنّا نبيء يُوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه. فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وَحْي كما يأتي الرّسلَ.
أو يكون المراد برسل الله جميع الرّسل، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمّد ( ﷺ ) لأنّهم لا يؤمنون بأنّه يأتيه وحي. ومعنى ) نؤتى ( على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرّسل، وهو الوحي. أو أرادوا برسل الله محمّداً ( ﷺ ) فعبّروا عنه بصيغة الجمع تعريضاً، كما يقال : إنّ ناساً يقولون كذا، والمراد شخص معيّن، ومنه قوله تعالى :( كذبت قوم نوح المرسلين ( ( الشعراء : ١٠٥ ) ونحوه، ويكون إطلاقهم عليه :( رسل الله ( تهكّماً به ( ﷺ ) كما حكاه الله عنهم في قوله :( وقالوا يأيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر إنَّك لمجنون ( ( الحجر : ٦ ) وقوله :( إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( ( الشعراء : ٢٧ ).
) اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ).
اعتراض للردّ على قولهم :( حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ( على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك.
فعلى الوَجه الأوّل : في معنى قولهم :( حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ( يكون قوله :( الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ردّاً بأنّ الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسَل إليهم ؛ فتكون ) حيث ( مجازاً في المكان الاعتباري للمعجزة، وهم القوم الذين يُظهرها أحد منهم، جُعلوا كأنَّهم مكان لظهور المعجزة. والرّسالات مطلقة على المعجزات لأنَّها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى النّاس، وقريب من هذا قول علماء الكلام : وجهُ
" صفحة رقم ٥٣ "
فليست الواو في قوله :( ويا آدم اسكن ( بعاطفة على أفعال القَوْل التي قبلها حتّى يَكون تقدير الكلام : وقُلنا يا آدم اسكن، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضوراً.
وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقَب، وإظهاراً للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول. ثمّ إن كان آدم خُلق في الجنّة، فكان مستقراً بها من قبل، فالأمر في قوله :( اسكن ( إنّما هو أمر تقرير : أي أبق في الحنّة، وإن كان آدم قد خُلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريماً له، وأيّاً مّا كان ففي هذا الأمر، بمسمع من إبليس، مقمعة لإبليس، لأنّه إن كان إبليس مستْقراً في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبَّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره، وإن لم يكن إبليس ساكناً في الجنّة قبلُ فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له، فقد دلّ موقع هذا الكلام، في هذه السّورة، على معنى عظيم من قمع إبليس، زائد على ما في آية سورة البقرة، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن.
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان ولياً من دون الله، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل، وهم ممّن يحذر الشّيطان ولا يتّبع خطواته.
والنّداء للإقبال على آدم والتّنويهِ بذكره في ذلك الملا. والإتيانُ بالضّمير المنفصل بعد الأمر، لقصد زيادة التّنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنّه ليس مثله، إذ الضّمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهومُ مخالفةٍ فإنّه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضّمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسيننِ أو تصحيح العطف على الضّمير المرفوع المستتر، لأن