" صفحة رقم ٥٤ "
دلالة المعجزة على صدق الرّسول ( ﷺ ) أنّ المعجزة قائمة مقام قول الله :( صدق هذا الرسولُ فيما أخبر به عني )، بأمارةِ أنِّي أخرق العادة دليلاً على تصديقه.
وعلى الوجه الثّاني : في معنى قولهم :( حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله (، يكون قوله :( الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ردّاً عليهم بأنّ الرّسالة لا تُعطى بسؤال سائِلها، مع التّعريض بأنّ أمثالهم ليسوا بأهل لها، فما صْدَقُ ) حيث ( الشّخصُ الّذي اصطفاه الله لرسالته.
و ) حيث ( هنا اسم دالّ على المكان مستعارة للمبعوث بالرّسالة، بناء على تشبيه الرّسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة، على طريقة الاستعارة المكنيّة. وإثباتُ المكان تخييل، وهو استعارة أخرى مصرّحة بتشبيه الرّسل بمكان إقامة الرّسالة. وليست ) حيث ( هنا ظرفاً بل هي اسم للمكان مجرّد عن الظرفية، لأنّ ) حيث ( ظرف متصرّف، على رأي المحقّقين من النّحاة، فهي هنا في محلّ نصب بنزع الخافض وهو الباء، لأن ) أعلم ( اسم تفضيل لا ينصب المفعول، وذلك كقوله تعالى :( إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله ( ( الأنعام : ١١٧ ) كما تقدّم آنفاً.
وجملة ) يجعل رسالته ( صفة ل ) حيث ( إذا كانت ) حيث ( مجرّدة عن الظرفية. ويتعيّن أن يكون رابط جملة الصّفة بالموصوف محذوفاً، والتّقدير : حيث يجعل فيه رسالاته.
وقد أفادت الآية : أنّ الرّسالة ليست ممّا يُنال بالأماني ولا بالتشهّي، ولكن الله يعلم مَن يصلح لها ومن لا يصلح، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله، فإنّ النّفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله، فلا تصلح للرّسالة إلاّ نفس خُلقت قريبة من النّفوس الملكيّة، بعيدة عن رذائل الحيوانية، سليمة من الأدواء القلبية.
" صفحة رقم ٥٤ "
تصحيحَ أو تحسين العطف يحصل بكلّ فاصل بين الفعل الرافع للمستتر وبين المعطوف، لا خصوص الضّمير، كأن يقال : ويا آدم اسكن الجنّةَ وزوجُك، فما اختير الفصل بالضّمير المنفصل إلاّ لما يفيد من التّعريض بغيره. وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضُمّها إليها أيضاً.
والكلام على قوله :( اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( يعلم ممّا مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة.
سوى أن الذي وقع في سورة البقرة ( ٣٥ ) ) وكلا بالواو وهنا بالفاء، والعطف بالواو أعم، فالآية هنا أفادت أنّ الله تعالى أذن آدم بأن يتمتّع بثمار الجنّة عقب أمره بسكنى الجنّة. وتلك منّة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام، ولما كان ذلك حاصلاً في تلك الحضرة، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس، الذي تكبّر وفضل نفسه عليه، كان الحال مقتضياً إعلام السّامعين به في المقام الذي حُكي فيه الغضب على إبليس وطردُه، وأما آية البقرة فإنّما أفادت السّامعين أنّ الله امتن على آدم بمنّة سكنى الجنّة والتّمتّع بثمارها، لأنّ المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته، والتّحذير من كيد الشّيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم.
على أنّ آية البقرة ( ٣٥ ) لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله : رغداً ( لأنه مدح للمُمْتن به أو دعاء لآدم، فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها، ليحصل تجديد الفائدة، تنشيطاً للسّامع، وتفنّناً في أساليب الحكاية، لأنّ الغرض الأهمّ من القصص في القرآن إنّما هو العبرة والموعظة والتأسي.
وقوله :( ولا تقربا هذه الشجرة ( أشدّ في التّحذير من أن يُنهى عن الأكل منها، لأنّ النّهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة.