" صفحة رقم ٥٥ "
فالآية دالّة على أنّ الرّسول يُخلق خِلقة مناسبة لمراد الله من إرساله، والله حين خلقه عالم بأنّه سَيرسله، وقد يخلق الله نفوساً صالحة للرّسالة ولا تكون حكمةٌ في إرسال أربابها، فالاستعداد مهيِّيء لاصطفاء الله تعالى، وليس موجِبا له، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين : إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافاً للفلاسفة، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين. وقد أشار ابنُ سينا في ( الإشارات ) إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع.
وفي قوله :( الله أعلم حيث يجعل رسالته ( بيان لعظيم مقدار النبي ( ﷺ ) وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم، كما قيل في المثل ( ليس بعُشِّككِ فادْرُجي ).
وقرأ الجمهور :( رسالاته ( بالجمع وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالإفراد ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد.
) سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ).
استئناف ناشىء عن قوله :( ليمكروا فيها ( ( الأنعام : ١٢٣ ) وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم :( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ).
فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله :( بما كانوا يمكرون ( فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة، وذكرهم ب ) الّذين أجرموا ( إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال : سيصيبهم صغار، وإنَّما خولف مقتضى الظاهر
" صفحة رقم ٥٥ "
والنّهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنّة : يحتمل أن يكون نهي ابتلاء. جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنّة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشّهوة لامتثال النّهي. فلذلك جعل النّهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها، وهذا هو الظّاهر ليتكّون مختلف القوى العقليّة في عقل النّوع بتأسيسها في أصل النّوع، فتنتقل بعده إلى نسله، وذلك من اللّطف الإلهي في تكوين النّوع ومن مظاهر حقيقة الربوبيّة والمربوبيّة، حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشقّ وضعها دفعة على قابليّة العقل، وقد دلّت الآيات على أن آدم لمّا ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشّجرة المنهي عنها، فأعقبه الأكلُ حدوث خاطر الشّعور بما فيه من نقايصَ أدركها بالفطرة، فمعناه أنّه زالت منه البساطة والسّذاجة. ويحتمل أن يكون ذلك لِخصوصيّة في طبع تلك الشّجرة أن تثير في النّفس علم الخير والشرّ كما جاء في التّوراة أنّ الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشرّ، وهذا عندي بعيد، وإنّما حكى الله لنا هيئة تطوّر العقل البشري في خلقة أصل النّوع البشري نظيرَ صنعه في قوله :( وعلّم آدم الأسماء كلّها ( ( البقرة : ٣١ ).
والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك ممّا تقدّم في سورة البقرة.
وانتصب :( فتكونا ( على جواب النّهي، والكون من الظّالمين متسبّب على القرب المنهي عنه، لا على النّهي، وذلك هو الأصل في النّصب في جواب النّهي كجواب النّفي، أن يعتبر التّسبّب على الفعل المنفي أو المنهي، بخلاف الجزم في جواب النّهي فإنّه إنّما يجزم المسبَّب على إنشاء النّهي لا على الفعل المنهي، والفرق بينهما : أنّ النّصب على اعتبار التسبب، والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء بخلاف الجزم فإنه على اعتبار الجواب، تشبيهاً بالشّرط، فاعتبر فيه معنى إنشاء النّهي تشبيهاً للإنشاء بالاشتراط.


الصفحة التالية
Icon