" صفحة رقم ٥٧ "
٥ ) ) فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذاَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ).
الفاء مُرتِّبة الجملةَ الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله :( أو من كان ميّتاً فأحييناه ( ( الأنعام : ١٢٢ ) وما ترتَّب عليه من التّفاريع والاعتراض. وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة ) حتى نوتى مثل ما أوتي رسل الله ( ( الأنعام : ١٢٤ )، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانَهم على حصوله، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمانَ المؤمن وكُفْرَ الكافر، وهو : هداية الله المؤمنَ، وإضلالُه الكافرَ، فذلك حقيقة التّأثير، دون الأسباب الظّاهرة، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام، كما قال تعالى :( إنّ الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية حتّى يَروا العذاب الأليم ( ( يونس : ٩٦، ٩٧ ) وكما قال :( ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشَرْنا عليهم كلّ شيء قِبَلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله ( ( الأنعام : ١١١ ).
والهدى إنَّما يتعلّق بالأمور النّافعة : لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود، ومجازَه رشاد العقل، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلِّقه هنا لظهور أنَّه الهدى للإسلام، مع قرينة قوله :( يشرح صدره للإسلام (، وأمّا قوله :( فاهْدُوهم إلى صراط الجحيم ( ( الصافات : ٢٣ ) فهو تهكّم. والضّلال إنَّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب، فلذلك كان مُشعراً بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام، فهو كالضّلال عن المطلوب، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام، لكنّه بحيث لو استقبَلَ من أمره ما استدبَر لطلبه.
" صفحة رقم ٥٧ "
فاسدة، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله :( من شر الوسواس الخنّاس ( ( الناس : ٤ ) وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم.
واللاّم في :( ليبدي ( لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى :( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ( ( القصص : ٨ ) وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان. ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله، ثم لغرض الإضرار بهما، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضَى الله عنهما، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ، وإن لم تخطر بباله، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل. والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر، كما سيصرّح به فيما بعدُ، وفي قوله تعالى :( إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ( ( فاطر : ٦ ).
والإبداء ضدّ الإخفاء، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال : بدَا لي أنْ أفعل كذا.
وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص، ومِن


الصفحة التالية
Icon