" صفحة رقم ٥٨ "
والشّرْح حقيقته شقّ اللّحم، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شَيُّها. واستعمل الشّرح في كلامهم مجازاً في البيان والكشف، واستعمل أيضاً مجازاً في انجلاء الأمر، ويقين النّفس به، وسكون البال للأمر، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى :( ألم نشرح لك صدرك ( ( الشرح : ١ ).
والصّدر مراد به الباطن، مجازاً في الفهم والعقل بعلاقة الحلول، فمعنى ) يشرح صدره ( يجعل لنفسه وعقله استعداداً وقبولاً لتحصيل الإسلام، ويُوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به، فلذلك يشبَّه بالشّرح، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحاً، يقال : لم تنشرح نفسي لكذا، وانشرحتْ لكذا. وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء. روى الطّبري وغيره، عن ابن مسعود :( أنّ ناساً قالوا : يا رسول الله كيف يشرحُ الله صدره للإسلام فقال رسول الله ( ﷺ ) يدخل فيه النّور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود، والتنحّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت ).
ومعنى :( ومن يرد أن يضله ( من يُرد دوام ضَلاله بالكفر، أو من يُرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام، فالمراد ضلال مستقبل، إمَّا بمعنى دَوام الضلال الماضي، وإمَّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر.
والضيِّقُ بتشديد الياء بوزن فَيْعِل مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق، يقال ضاق ضِيقاً بكسر الضاد وضَيقاً بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح ؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فَعْل، وذلك مثل مَيِّت ومَيْت، وهما وإن اختلفت زنتهما، وكانت زنة فَيْعِل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فَعْل، فإنّ الاستعمال سوّى
" صفحة رقم ٥٨ "
سَب العرب قولهم : سوأةً لك، ومن تلهّفهم : يا سوْأتَا. ويكنّى بالسوأة عن العورة. ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس.
والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد :
لَم يَهْب حُرمة النّديم وحُقَّت
يا لَقَوْمي للسوأةِ السوآءِ
فتكون صيغة الجمع على حقيقتها، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه، ويجوز أن تكون جمع السوأة، المكنى بها عن العورة، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى :( قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ( ( الأعراف : ٢٦ ) وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى :( فقد صَغَت قلوبكما ( ( التحريم : ٤ ). وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا :( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ( ( الأعراف : ٢٢ ).
وعطفُ جملة :( وقال ما نهاكما ربكما ( على جملة ) فوسوس ( يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله :( ما نهاكما ( إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما، ولو كانت جملة :( ما نهاكما ( إلى آخرها بياناً لجملة ) فوسوس ( لكانت جملة :( وقال ما نهاكما ( بدون عاطف، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن. وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما. ألا ترى أنّه لم يعطف قوله، في سورة طه ( ١٢٠ ) :( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته، واستزلالاً لقدمه، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في


الصفحة التالية
Icon