" صفحة رقم ٥٩ "
بينهما على الأصحّ. والأظهر أنّ أصل ضيِّق : بالتخفيف وصف بالمصدر، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف. وقرىء بهما في هذه الآية، فقرأها الجمهور : بتشديد الياء، وابن كثير : بتخفيفها. وقد استعير الضيِّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه، بحيث يكون مضطرب البال إذا عُرض عليه الإسلام، وهذا كقوله تعالى :( حصرت صدورهم وتقدّم في سورة النّساء ( ٩٠ ).
والحَرِج بكسر الراء صفة مشبّهة من قولهم : حَرِج الشّيء حرَجاً، من باب فرح، بمعنى ضاق ضيقاً شديداً، فهو كقولهم : دَنِف، وقَمِن، وفَرِق، وحَذِر، وكذلك قرأه نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، وأمّا الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة، فهو كقولهم : رجل دَنَف بفتح النّون وفَرَد بفتح الراء.
وإتْباع الضيِّق بالحرج : لتأكيد معنى الضيق، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق. والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام، بقرينة مقابلته بقوله : يشرح صدره للإسلام ). وزاد حالة المضلَّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل، فقال :( كأنما يصعد في السماء ).
قرأه الجمهور :( يصّعَّد ( بتشديد الصاد وتشديد العين على أنَّه يَتفعَّل من الصعود، أي بتكلّف الصعود، فقلبت تاء التفعّل صاداً لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلباً مطّرداً ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام، فتدغم في أحد أحرف
" صفحة رقم ٥٩ "
سورة الأعراف : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ( الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل.
والإشارة بقوله :( عن هذه لشجرة ( إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي.
والاستثناء في قوله :( إلا أن تكونا ملكين ( استثناء من علل، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين، فتعين تقدير لام التّعليل قبل ( أنْ ) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على ( أنْ ) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس.
وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي : أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله، أي هو علّة في الجملة، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير : كراهة أن تكونا. وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، كما تقدّم في سورة الأنعام، وقيل حذفت ( لا ) بعد ( أن ) وحذفها موجود، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه. وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة، إذا أكلا من الشّجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة.


الصفحة التالية
Icon