" صفحة رقم ٦٤ "
بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس، فتمحّضت للنَّعيم الملائم، وقيل : السّلام، اسم من أسماء الله تعالى، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة : بيت الله، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه، كقول النّابغة :
كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنىً
عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار
و ) عند ( مستعارة للقرب الاعتباري، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه :( وهو وليّهم (، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر، كما يقال : إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد. والعدول عن إضافة ) عند ( لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر : لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم. فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالى :( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ( ( الأنعام : ١٢٤ ).
وعطف على جملة :( لهم دار السلام ( جملة :( وهو وليهم ( تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم، لأنَّها من تمام المنّة. والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي.
وقوله :( بما كانوا يعملون ( يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله :( لهم دار السلام (، من مفهوم الفعل، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون، فتكون الباء سببيّة، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام، أو الباء للعوض : أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم، وتكون جملة :( وهو وليهم ( معترضة بين الخبر ومتعلِّقه، ويجوز أن يَكون :( بما كانوا يعملون ( متعلِّقا ب ) وليّهم ( أي وهو ناصرهم، والباء للسّببيّه : أي بسبب أعمالهم
" صفحة رقم ٦٤ "
ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه.
وقوله :( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين، عَرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة، وأنّ سترها متعيّن، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان، ثمّ أخذت الشّرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربِّينَ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام، كما فصّلتُه في كتاب ( مقاصد الشّريعة ) وكتاب ( أصول نظام الاجتماع في الإسلام ).
والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف، وضعا مُلزقاً متمكّناً، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة.