" صفحة رقم ٦٨ "
والكلام توبيخ للجنّ وإنكار، أي كان أكثر الإنس طوعاً لكم، والجنّ يشمل الشّياطين، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم : بالوسوسة، والتخييل، والإرهاب، والمسّ، ونحو ذلك، حتّى تَوهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل وادياً قال :( أعوذ بسَيِّد هذا الوادي، أو بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ، أو قال : يَا ربّ الوادي إنِّي أستجير بك ) يعني سيّدَ الجنّ. وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ. قال الأعشى :
وبلدةٍ مثل ظَهْر التُّرس موحِشةٍ
للجِنّ باللّيل في حَافَاتها زَجَل
وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدلّ عليه قوله الآتي :( يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( ( الأنعام : ١٣٠ ) فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة.
والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ : أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم. وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك. وقيل : أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّاً لها ) اللَّهُ ولي الذين آمنوا ( ( البقرة : ٢٥٧ ) ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية :( ألم يأتكم رسل منكم ( ( الأنعام : ١٣٠ ) وقال :( وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين ).
و ) من الإنس ( بيان للأولياء. وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.
" صفحة رقم ٦٨ "
طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه، ولكلّ مقامً مَقال. والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ. والأمر تكويني، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض.
وجملة :( بعضكم لبعض عدو ( في موضع الحال من ضمير :( اهبطوا ( المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس، فأحد البعضين هو آدم وزوجه، والبعض الآخر هو إبليس، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين، كانت موروثة في نسليهما، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود، فهي منبثّة في التّفكير والجسد، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين.
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في النّاس الخير. أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال.


الصفحة التالية
Icon