" صفحة رقم ٦٩ "
ومعنى :( استمتع بعضنا ببعض ( انتفع وحَصّل شهوته وملائِمَهُ : أي استمتع الجنّ بالإنس، وانتفع الإنس بالجنّ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنَّه بعض مجموع الفريقين. وإنَّما قالوا : استمتع بعضنا ببعض، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ، لأنَّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعاً بصاحبه، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقراراً بالحقّ، وإخلاصاً لأوليائهم، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المُغوين يُعرّض بتوبيخ المغوَيْن بفتح الواو. فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّداً على الله، ولا استخفافاً بأمره، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين، وهي المراد بالاستمتاع.
ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء. وكون كلامهم دخيلاً في المخاطبة، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنَّها قول آخر عَرض في ذلك اليوم.
وجيء في حكاية قولهم بفعل ) وقال أولياؤهم ( مع أنّه مستقبل من أجللِ قوله :( يحشرهم ( تنبيها على تحقيق وقوعه، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه، وأنّه واقع لا محالة، إذ لا يكون بعضه محقّقاً وبعضه دون ذلك.
واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل : بتيسير شهواتهم، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم، وسلامتهم من بطشتهم. واستمتاع الجنّ بالإنس : هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة، وإعانتُهم على إضلال النّاس، والوقوفُ في وجه دعاة الخير، وقطع سبيل الصّلاح، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.
" صفحة رقم ٦٩ "
وعطفت جملة :( ولكم في الأرض مستقر ( على جملة :( بعضكم لبعض عدو ).
والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى :( لكل نبإ مستقر ( ( الأنعام : ٦٧ ) وقوله ) فمستقر ومستودع في سورة الأنعام ( ٩٨ ).
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض.
والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء، وتقدّم في قوله تعالى : لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم في سورة النّساء ( ١٠٢ ).
والحِين المدّة من الزّمن، طويلة أو قصيرة، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم.
) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ).
أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحداً، والغرضضِ متّحداً، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين : الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في ( املاءات التّفسير ) المروية


الصفحة التالية
Icon