" صفحة رقم ٧٢ "
الكفار، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم.
ولك أن تجعل ( ما ) على هذا الوجه موصولة، فإنَّها قد تستعمل للعاقل بكثرة. وإذا جعل قوله :( خالدين ( من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية : أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولاَ حالةٍ، وإنَّما هو كناية، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى، مختاراً لا مكره له عليه، إظهاراً لتمام القدرة ومحض الإرادة، كأنَّه يقول : لو شئت لأبطلتُ ذلك. وقد يعْضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله :( فأمَّا الذين شَقُوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعَّال لما يريد وأمّا الذين سعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ ( ( هود : ١٠٦، ١٠٨ ) فانظر كيف عقّب قوله :( إلا ما شاء ربّك ( في عقاب أهل الشّقاوة بقوله :( إنّ ربّك فعَّال لما يريد ( ( هود : ١٠٧ ) وكيف عقَّب قوله :( إلا ما شاء ربّك ( في نعيم أهل السّعادة بقوله :( عَطاء غير مجذوذ ( ( هود : ١٠٨ ) فأبْطل ظاهر الاستثناء بقوله :( عطاء غير مجذوذ ( فهذا معنى الكناية بالاستثناء، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غيرُ مخصوص بزمن ولا بحال. ويَكونُ هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه.
وقوله :( إن ربك حكيم عليم ( تذييل، والخطاب للنّبي ( ﷺ ) فإن كان قوله :( خالدين فيها إلا ما شاء الله ( من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله :( إن ربك حكيم عليم ( جملة معترضة بين الجمل المقولة، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشرّك من الخلود رتّبه بحكمته وعِلْمه، وإن كان قوله :( خالدين ( إلخ كلاماً مستقلاً معترضاً كان قوله :( إن ربك حكيم عليم ( تذييلاً للاعتراض، وتأكيداً للمقصود
" صفحة رقم ٧٢ "
إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله :( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ( الآية استئنافاً ابتدائياً، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله :( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ( الأعراف : ٣ ) الآيات، وهم أمّة الدّعوة، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي، وكان قوله :( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ( ( الأعراف : ١١ ) استطراداً بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى :( ولقد خلقناكم ( فخاطبتْ هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله :( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( ( الأعراف : ٣١ ) ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي.
ويجوز أن يكون قوله :( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ( وما أشبهه ممّا افتتح بقوله :( يا بني آدم ( أربعَ مرّات، من جملة المقول المحكي بقوله :( قال فيها تحيون ( ( الأعراف : ٢٥ ) فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدمَ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي، ولو بالإلهام، لما تَنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق، فابتدأ فأعلمهم بمنَّته عليهم أن أنزل لهم لباساً يواري سَوْآتهم، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سَوءاتُهما، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله :( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ( ( الأعراف : ٢٧ ) ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله :( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( ( الأعراف : ٣١ )، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يُصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله :( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ( ( الأعراف : ٣٥ ) الآية، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قُصدوا من هذا القَصص، وهم المشركون المكذّبون محمّداً ( ﷺ ) فهم المقصود من هذا الكلام


الصفحة التالية
Icon