" صفحة رقم ٧٣ "
من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطاً بالموافاة على الشّرك. وجَعْل النّجاة من ذلك الخلودِ منوطة بالإيمان.
والحكيم : هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها، والأسباب لمسبّباتها. والعليم : الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب.
٩ ) ) وَكَذاَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).
وهو من تمام الاعتراض، أو من تمام التذييل، على ما تقدّم من الاحتمالين، الواو للحال : اعتراضيّة، كما تقدّم، أو للعطف على قوله :( إنّ ربَّك حكيم عليم ( ( الأنعام : ١٢٨ ).
والإشارة إلى التولية المأخوذة من :( نولى (، وجاء اسم الإشارة بالتّذكير لأنّ تأنيث التولية لفظي لا حقيقي، فيجوز في إشارته مَا جاز في فِعله الرافع للظّاهر، والمعنى : وكما ولّينا ما بين هؤلاء المشركين وبين أوليائهم نُولّي بين الظّالمين كلّهم بعضِهم مع بعض.
والتولية يجيء من الولاء ومن الوِلاية، لأنّ كليهما يقال في فعله المتعدّي : ولَّى، بمعنى جعل ولياً، فهو من باب أعطى يتعدّى إلى مفعولين، كذا فسّروه، وظاهر كلامهم أنّه يقال : ولّيت ضَبَّة تميماً إذا حالفتَ بينهم، وذلك أنَّه يقال : تَولَّتْ ضبةُ تميماً بمعنى حالفْتهم، فإذا عدّي الفعل بالتضعيف قيل : ولَّيت ضَبة تميماً، فهو من قبيل قوله :( نُولِّه ما تولّى ( ( النساء : ١١٥ ) أي نلزمه ما ألزم نفسه فيكون معنى :( نولى بعض الظالمين بعضاً ( نجعل بعضهم أولياء بعض، ويكون ناظراً إلى قوله :( وقال أولياؤهم من الإنس ( ( الأنعام : ١٢٨ ). وجعَل الفريقين ظالمين لأنّ الذي يتولّى قوماً يصير منهم،
" صفحة رقم ٧٣ "
كيفما تفنّنت أساليبه وتناسقَ نظمُه، وأيًّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركُو العرب ومكذّبو محمّد ( ﷺ ) ولذلك تخللتْ هذه الخطاباتتِ مُستطرَدَاتٌ وتعريضاتٌ مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة.
والجُمل الثّلاث من قوله :( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ( وقوله ) يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ( ( الأعراف : ٢٧ ) وقوله ) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( ( الأعراف : ٣١ ) متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة :( قال فيها تحيون ( ( الأعراف : ٢٥ ) على طريقة تعداد المقول تعداداً يشبه التّكرير.
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين : لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم، معرّضون لسخطه وعقابه.
وابتُدىء الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان : وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها، وتعادي عدوّهم، وتحترس من الوقوع في شَرَكه.
ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه، وقد تقلّدها بنوه، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة، وهي أوقع وأدعى للشّكر، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً، لقصد تشريف هذا المظهر، وهو أوّل مظاهر الحَضارة، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص،