" صفحة رقم ٧٤ "
فإذا جعل الله فريقاً أولياء للظّالمين فقد جعلهم ظالمين بالأخارة، قال تعالى :( ولا تَركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار ( ( هود : ١١٣ ) وقال :( بعضهم أولياء بعض ومَن يتولَّهم منكم فإنَّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين ( ( المائدة : ٥١ ).
ويقال : ولَّى، بمعنى جعل والياً، فيتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى أيضاً، يقال : وَلَّى عُمَرُ أبا عبيدة الشّام، كما يقال : أولاه، لأنَّه يقال : وَلِي أبو عبيدة الشّامَ، ولذلك قال المفسّرون : يجوز أن يكون معنى :( نولى بعض الظالمين بعضاً ( نجعل بعضَهم ولاة على بعض، أي نسلّط بعضهم على بعض، والمعنى أنّه جعل الجنّ وهم ظالمون مسلّطين على المشركين، والمشركون ظالمون، فكلّ يظلِم بمقدار سلطانه. والمراد : ب ) الظالمين ( في الآية المشركون، كما هو مقتضى التّشبيه في قوله :( وكذلك ).
وقد تشمل الآية بطريق الإشارة كلّ ظالم، فتدلّ على أنّ الله سلّط على الظالممِ من يظلمه، وقد تأوّلها على ذلك عبد الله بن الزُبير أيَّام دَعوته بمكّة فإنَّه لمَّا بلغه أنّ عبد الملك بن مروان قَتَل عَمْراً بنَ سعيد الأشدقَ بعد أن خرج عَمرو عليه، صَعِد المنبر فقال :( ألاَ إنّ ابن الزّرقاء يعني عبدَ الملك بن مروان ؛ لأنّ مروان كان يلقّب بالأزرق وبالزرقاء لأنّه أزرق العينين قد قَتل لَطِيم الشّيطان ) وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ). ومن أجل ذلك قيل : إنْ لم يُقلع الظّالم عن ظلمه سُلّط عليه ظالم آخر. قال الفخر : إنْ أراد الرّعيّةُ أن يتخلّصوا من أمير ظالم ؛ فليتركوا الظّلم. وقد قيل :
ومَا ظَالمٌ إلاّ سَيُبْلَى بظَالِم
وقوله :( بما كانوا يكسبون ( الباء للسببية، أي جزاء على استمرار شركهم.
" صفحة رقم ٧٤ "
على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه، تشريفاً لشأنه، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع، كما في قوله :( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس ( ( الحديد : ٢٥ ) أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاععِ به، وكذلك قوله :( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( ( الزمر : ٦ ) أي : خلَقها لكم في الأرض بتدبيره، وعلَّمكم استخدامها والانتفاعَ بما فيها، ولا يطرد في جميع ما أُلهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في الجدوى، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر.
وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله :( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ( ( الأعراف : ٣٢ ) فخالفوا الفطرة، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر :( قال موعدكم يوم الزينة ( ( طه : ٥٩ ).
واللّباس اسم لما يلبَسه الإنسان أي يستُر به جزءاً من جسده، فالقميص لباس، والإزار لباس، والعمامة لباس، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى :( وتستخرجون حلية تلبسونها ( ( فاطر : ١٢ ) ومصدر لبس اللّبس بضمّ اللاّم.
وجملة :( يواري سوآتكم ( صفة ( للباساً ) وهو صنف اللّباس اللاّزم، وهذه الصّفة صفة مَدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآيه إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة، وهي السوأة، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه، وقد ثبت بعضه بالسنّة، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه.


الصفحة التالية
Icon