" صفحة رقم ٧٥ "
والمقصود من الآية الاعتبار والموعظة، والتّحذير مع الاغترار بولاية الظّالمين. وتوخي الأتباععِ صلاحَ المتبوعين. وبيانُ سنّة من سنن الله في العالَمين.
٠ ) ) يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ).
هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالاً لمعذرتهم، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً.
والهمزة في ) ألم يأتيكم ( للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به، كما يقال للجاني : ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم. ومنه قوله تعالى :( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم ( ( الأعراف : ١٧٢ )، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء
" صفحة رقم ٧٥ "
والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته، ويقال للباس الزّينة رِياش.
وعطف ( ريشاً ) على :( لباساًيزارى سوآتكم ( عطفَ صنف على صنف، والمعنى يَسَّرنا لكم لباساً يستركم ولباساً تتزيّنون به.
وقوله :( ولباس التقوى ( قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبُو جعفر : بالنّصب، عطفاً على ) لباساً ( فيكون من اللّباس المُنْزَل أي الملهَم، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس. والتّقوى، على هذه القراءة، مصدر بمعنى الوقاية، فالمراد : لَبوس الحرب، من الدّروع والجواشن والمغافر. فيكون كقوله تعالى :( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ( ( النحل : ٨١ ). والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة، أي خير أعطاه الله بني آدم. فالجملة مستأنفة أو حال من ) لباساً ( وما عطف عليه.
وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو عمرو، ويعقوب، وخَلف : برفع ) لباس التقوى ( على أنّ الجملة معطوفة على جملة ) قد أنزلنا عليكم لباساً (، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يُلبس، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللاّبس لباسه، كقوله تعالى :( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( ( البقرة : ١٨٧ ) مع ما يحسِّن هذا الإطلاق من المشاكلة.
وهذا المعنى الرّفعُ أليقُ به. ويكون استطراداً للتّحريض على تقوى الله، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه.
وجملة :( ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ( استئناف ثان على قراءة :( ولباس التقوى ( بالنّصب بأن استأنف. بعد الامتنان بأصناف اللبّاس، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة : الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه، وتدلّ على


الصفحة التالية
Icon