" صفحة رقم ٧٦ "
في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.
والرّسل : ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم : من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى :( إذْ جاءها المرسلون ( ( يس : ١٣ ) وهم رسل الحواريين بعد عيسى.
فوَصْف الرّسل بقوله :( منكم ( لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون ( مِن ) اتِّصالية مثل الّتي في قولهم : لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قوله :( هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم ( ( الجمعة : ٢ ) وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار.
وتكون ( من ) تبعيضية، ويكون المراد بضمير :( منكم ( خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالى :( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( ( الرحمن : ٢٢ ) وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح. فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ :( قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا ( ( الجن : ١ ) الآية، وقال في سورة الأحقاف ( ٣٠، ٣١ ) :( قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله : إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم ( ( الأعراف : ٢٧ )
" صفحة رقم ٧٦ "
وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً، فلذلك أكّد الوصاية به. والمشار إليه، بالإشارة التي في الجملة الثّانية، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة.
وعلى قراءة رفع :( ولباس للتقوى ( تكون جملة : ذلك من آيات الله استئناف واحداً والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبلُ من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي.
وضمير الغيبة في :( لعلهم يذكرون ( التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف، وفي هذا الإلتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب، على أنّ ضمائر الغيبة، في مثل هذا المقام في القرآن، كثيراً ما يقصد بها مشركو العرب.
) ) يَابَنِى
آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ).
أعيد خطاب بني آدم، فهذا النّداء تكملة للآي قبله، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم، إذ كاد لأصلهم.
والنّداء بعنوان بني آدم : للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة.