" صفحة رقم ٧٩ "
واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيَّنه، ومنه :( شهد الله أنَّه لا إلاه إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط ( ( آل عمران : ١٨ ). وشهد عليه، أخبر عنه خبرَ المتثبت المتحقّق، فلذلك قالوا :( شهدنا على أنفسنا ( أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله :( إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين ( ( الأنعام : ٢٣ ) لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفُصِلت جملة :( قالوا ( لأنَّها جارية في طريقة المحاورة.
وجملة ) وغرتهم الحياة الدنيا ( معطوفة على جملة :( قالوا شهدنا ( باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم : من اللّهو، والتّفاخر، والكبر، والعناد. والاستخفاف بالحقائق، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله. فإنّ حالهم سواء.
وجملة :( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( معطوفة على جملة :( وغرتهم الحياة الدنيا ( وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدّنيا. وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب. وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا
" صفحة رقم ٧٩ "
وجملة :( إنه يراكم هو وقبيله ( واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان، والتّحذير من كيده، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر، وأنّ البشر لا يرونها، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري.
فليس المقصود من قوله :( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة.
والضّمير الذي اتّصلت به ( إنّ ) عائد إلى الشّيطان وعُطف :( وقبيله ( على الضّمير المستتر في قوله :( يريكم ( ولذلك فصل بالضّمير المنفصل. وذُكر القبيل، وهو بمعنى القبيلة، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ، تقول العرب : أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون.
وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه.
و ) من حيث لا ترونهم ( ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه، فيفيد : إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات،