" صفحة رقم ٨٠ "
الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله :( وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم ( ( الملك : ١٠، ١١ ). فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء، فلا تنافي أنَّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب، إذ قالوا :( والله ربّنا ما كنّا مشركين ( ( الأنعام : ٢٣ ). قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس :( إنِّي أجد أشياء تختلف عليّ قال اللَّهُ :( ولا يكتمون الله حديثاً ( ( النساء : ٤٢ )، وقال :( إلاّ أن قالوا واللَّهِ ربّنا ما كنّا مشركين ( ( الأنعام : ٢٣ )، فقد كَتَموا. فقال ابن عبّاس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون : تَعالوا نقل : ما كنّا مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم ).
١ ) ) ذاَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ).
استئناف ابتدائي، تهديد وموعظة، وعبرة بتفريط أهل الضّلالة في فائدة دعوة الرّسل، وتنبيه لجدوى إرسال الرّسل إلى الأمم ليعيد المشركون نظراً في أمرهم، ما داموا في هذه الدار، قبل يوم الحشر، ويعلموا أنّ عاقبة الإعراض عن دعوة الرّسول ( ﷺ ) خسرى، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم، وإيقاظٌ للمشركين بأنّ حالهم كحال المتحدّث عنهم إذا ماتوا على شركهم.
والإشارة بقوله :( ذاَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( إلى مذكور في الكلام السّابق، وهو أقرب مذكور، كما هو شأن الإشارة إلى غير مَحسوس، فالمشار إليه هو المذكور
" صفحة رقم ٨٠ "
معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح :( إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد ) الحديث، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة، وقول النّبيء ( ﷺ ) لأبي هريرة :( ذلك شيطان ) كما في ( الصّحيحين )، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطاننِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه، وذلك بمنزلة رؤية مكاننٍ يُعلم أنّ فيه شيطاناً، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق، فلولا الخبر لما عُلم ذلك.
وجملة :( إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون ( مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم، وتنفيراً من أحوالهم، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ :( إنه يريكم هو وقبيله ).
وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين. والجعل هنا جعل التّكوين، كما يعلم من قوله تعالى :( بعضكم لبعض عدو ( ( الأعراف : ٢٤ ) بمعنى خلقنا الشّياطين.
و ) أولياءَ ( حال من ) الشياطين ( وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها : كالافتراس في الأسد، واللّسع في العقرب، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء