" صفحة رقم ٨١ "
قبلُ، أو هو إتيان الرّسل الّذي جَرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم، وهو المصدر المأخوذ من قوله :( ألَم يَأتكم رسلٌ منكم ( ( الأنعام : ١٣٠ ) فإنَّه لمّا حكى ذلك القول للنّاس السّامعين، صار ذلك القول المحكي كالحاضر، فصحّ أن يشار إلى شيء يؤخذ منه. واسم الإشارة إمّا مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره : ذلك الأمر أو الأمر ذلك، كما يدلّ عليه ضمير الشأن المقدّر بعد ( أنْ ).
و ) أن ( مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، كما هو استعمالها عند التّخفيف، وذلك لأنّ هذا الخبر له شأن يجدر أن يُعرَف والجملة خبر ) أن (، وحذفت لام التّعليل الداخلة على ) أن ( : لأنّ حذف جارّ ) أن ( كثير شائع، والتّقدير : ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، لأنَّه أي الشأن لم يكن ربّك مُهلك القرى.
وجملة :( لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ( هو شأن عظيم من شؤون الله تعالى، وهو شأن عَدله ورحمته، ورضاه لعباده الخير والصّلاح، وكراهيته سوء أعمالهم، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدّم إليهم بالإنذار والتنبيه.
وفي الكلام إيجاز إذ عُلم منه : أنّ الله يهلك القرى المسترسِلَ أهلُها على الشّرك إذا أعرضوا عن دعوة الرّسل، وأنّه لا يهلكهم إلاّ بعد أن يرسل إليهم رسلاً منذرين، وأنّه أراد حمل تَبعَة هلاكهم عليهم، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا : لولا رحمنا ربّنا فانبأنا وأعذر إلينا، كما قال تعالى :( ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله ( ( أي قبل محمّد ( ﷺ ) أو قبل القرآن ) ) لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك
" صفحة رقم ٨١ "
الصّالحة في بادىء النّظرة الحمقاء، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين، ومؤتمراً بما تسوله إليه، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه، حتّى صار المالكَ لإراداتهم، وتلك مَرتبَة المشركين، وتتفاوت مراتب هذه الولاية، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله :( إنّ الشيطان لكما عدو مبين ( ( الأعراف : ٢٢ ) وقوله ) بعضكم لبعض عدو ( ( الأعراف : ٢٤ ) فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد، وهو الشّرك وما فيه، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله :( بعضكم لبعض عدو ( كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان.
والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى :( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم في هذه السورة ( ٣٥ ).
) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ).
) وإذا فعلوا فاحشة ( معطوف على ) للذين لا يؤمنون ( ( الأعراف : ٢٧ ) فهو من جملة الصّلة، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين، بقرينة قوله :


الصفحة التالية
Icon