" صفحة رقم ٨٢ "
من قبل أن نذل ونخزى ( ( طه : ١٣٤ ) فاقتصر من هذا المعنى على معنى أنّ علّة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة، فدلّ على المعنى المحذوف.
والإهلاك : إعدام ذات الموجود وإماتةُ الحيّ. قال تعالى :( ليَهْلِك من هلك عن بيّنة ويَحْيَى من حَيِيَ عن بيّنة ( ( الأنفال : ٤٢ ) فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها، وإحياؤها إعادةُ عُمرانها بالسكّان والبناء، قال تعالى :( أنَّى يحيي هذه ( أي القريةَ ) الله بعد موتها ( ( البقرة : ٢٥٩ ). وإهلاك النّاس : إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فمعنى إهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكّانها. لأنّ الإهلاك تعلّق بذات القرى، فلا حاجة إلى التمجّز في إطلاق القرى على أهل القرى ( كما في : و ) اسأل القرية ( ( يوسف : ٨٢ ) ) لصحّة الحقيقة هنا، ولأنَّه يمنع منه قوله :( وأهلُها غافلون ). ألا ترى إلى قوله تعالى :( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً ( ( الإسراء : ١٦ ) فجعل إهلاكها تدميرها، وإلى قوله :( ولقد أتَوْا على القرية التي أُمطرت مَطَر السَّوْء أفلم يكونوا يرونها ( ( الفرقان : ٤٠ ).
والباء في :( بِظلم ( للسّببيّة، والظلم : الشّرك، أي مهلكهم بسبب شرك يَقع فيها فيهلكها ويهلك أهلها الّذين أوقعوه، ولذلك لم يقل : بظلم أهلها، لأنَّه أريد أن وجود الظلم فيها سببُ هلاكها، وهلاكُ أهلها بالأحرى لأنَّهم المقصود بالهلاك.
وجملة :( وأهلها غافلون ( حال من ) القرى ). وصرح هنا ب ) أهلها ( تنبيها على أنّ هلاك القُرى من جراء أفعال سكّانها، ) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ( ( النمل : ٥٢ ).
٢ ) ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ).
" صفحة رقم ٨٢ "
) قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ( والمقصود من جملتي الصّلة : تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول. وجاء الشّرط بحرف ) إذا ( الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة.
والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي : فَعْلَة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه، فصارت الفاحشة اسماً للعمل الذّميم، وهي مشتقّة من الفُحْش بضمّ الفاء وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة، وينكرها أولو الأحلام، ويستحيي فاعلها من النّاس، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع، كأفعال أهل الجاهليّة، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد، ومثل العراء في الحجّ، وترك تسمية الله على الذّبائح، وهي من خَلق الله وتسخيره، والبغاء، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء، وحرمان الأقارب من الميراث، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل، وتحريمهم على أنفسهم كثيراً من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم. وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لاقصرها عليه فكأن أيمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم، وجِماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالِفين الذين هم قدوة لخلفهم، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى، ففهم منه أنّهم اعتذروا


الصفحة التالية
Icon