" صفحة رقم ٨٧ "
وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ. ومفعول :( يشأ ( محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة.
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله :( وإنَّا على ذهاب به لقادرون ( ( المؤمنون : ١٨ ).
والاستخلاف : جعل الخَلف عن الشّيء، والخَلَف : العوض عن شيء فائت، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد، و ) مَا ( موصولة عامّة، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم.
والتّشبيه في قوله :( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب.
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافاً كما أنشأكم، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف. و ) مِنْ ( ابتدائية، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى :( قال ومن ذريتي في سورة البقرة ( ١٢٤ ).
ووصف قوم ( ب ) آخرين ( للدّلالة على المغايرة، أي قوم ليسوا من قبائل العرب، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن، وهذا كناية عن تباعد العصور، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة.
" صفحة رقم ٨٧ "
بقسط، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط، والمبالغة في وضع اللباس إفراطٌ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحَرّ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو، والاسترسال فيه نهامة، والوسط هو الاعتدال، فقوله :( أمر ربي بالقسط ( كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط.
ثمّ أعقبه بأمر النبي ( ﷺ ) بأن يقول لهم عن الله :( أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( فجملة :( وأقيموا ( عطف على جملة :( أمر ربي بالقسط ( أي قُلْ لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح. وإبطالُ شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن شيءٍ وفعلَ ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره.
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته، بحال المتهيّىء لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً، أي غير متغاضضٍ ولا متوان في التّوجّه، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال : قامت السّوق، وقامت الصّلاة، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة ( ٣ ) عند قوله :( ويقيمون الصلاة ومنه قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفاً ( ( الروم : ٣٠ ) فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضاً، وهذا كما ورد في الحديث :( المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه ) فالنّهي عن التّعرّي


الصفحة التالية
Icon