" صفحة رقم ٨٨ "
٤ ) ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ).
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة :( إن يشأ يذهبكم ( ( الأنعام : ١٣٣ ) فإنّ المشيئة تشتمل على حالين : حاللِ ترك إهلاكهم، وحاللِ إيقاعه، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب، ولك أن تجعل الجملة استئنافاً بيانياً : جواباً عن أن يقول سائل من المشركين، متوركاً بالوعيد : إذا كنّا قد أُمهلنا وأخِّر عنَّا الاستئصال فقد أُفلتنا من الوعيد، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا، فورد قوله :( إن ما توعدون لأت ( مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشىء عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ مَا أُوعد به المشركون، واقع لا محالة وإنْ تأخّر.
والتّأكيد ب ) أنّ ( مناسب لمقام المتردّد الطالب، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنَّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به، فإنَّهم قالوا :( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ( الأنفال : ٣٢ ) إ فحاماً للرّسول ( ﷺ ) وإظهاراً لتخلّف وعيده.
وبناء ) توعدون ( للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وَعد يَعِد، أو مضارع أوْعد، يُوعد والمتبادر هو الأوّل. ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين : بأن يقال : إنّ ما نعدكم، أو إنّ ما نُوعدكم، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعْداً للمؤمنين، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين، فلذلك عقّب الكلام بقوله :( وما أنتم بمعجزين ( فذلك كالتّرشيح لأحد المحتمَلين من الكلام الموجَّه.
" صفحة رقم ٨٨ "
مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمرِ باللّباس : ابتداء من قوله :( ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ( ( الأعراف : ٢٠ ) إلى هنا.
ومعنى :( عند كل مسجد ( عند كلّ مكان متخَذ لعبادة الله تعالى، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيَّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى :( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام في سورة العقود ( ٢ )، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالاً من الحجّ كلّها مساجد، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ، فذِكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيرَه من أصنامهم بالنّية، كما كانوا وضعوا ( هُبَلَ ) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهُبل، ووضعوا ( إسافاً ونائلة ) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلّون إلى ( منَاة ) عند ( المشلل )، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها، فهذه مناسبة عطف قوله : وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه.
والدّعاء في قوله :( وادعوه مخلصين له الدين ( بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله :( إن الذين تدعون من دون الله ( ( الأعراف : ١٩٤ ). والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة غيره. والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته.


الصفحة التالية
Icon