" صفحة رقم ٨٩ "
والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعودِ به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظرِ إتيانُه، كما تقدّم في قوله تعالى :( قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله بغتة أو جهرة في هذه السورة.
وحقيقة المُعجز هو الّذي يَجعل طالب شيءٍ عاجزاً عن نواله، أي غير قادرين، ويستعمل مجازاً في معنى الإفلات من تَناوُل طالبِه كما قال إياس بن قبيصَة الطائي :
ألم تَرَ أنّ الأرضَ رحْب فسيحة
فهَل تُعْجزَنِّي بُقعة من بِقاعها
أي فلا تُفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني. فالمعنى : وما أنتم بمعجزي أي : بمفلتين من وعيدي، أو بخارجين عن قدرتي، وهو صالح للاحتمالين.
ومجيء الجملة اسميّة في قوله : وما أنتم بمعجزين ( لإفادة الثّبات والدّوام، في نسبة المسند للمسند إليه، وهي نسبةُ نفيه عن المسند إليه، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنَّما هو كيفيّة للنّسبة. والخصوصياتُ مقتضياتُ أحواللِ التّركيب، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلاّ في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب، فإنّ النّفي يعتبر متوجّهاً إليها خاصّة وَهي قيود مفاهيم المخالفة، وإلاّ لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفياً، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر :
لا يألفُ الدرهمُ المضروب صرّتَنا
لكن يمرّ عليها وهو منطق
إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع، وبين أن تقول : ألِفَ الدّرهم صرّتنا. وكذلك قوله تعالى :( لاَ هُنّ حِلّ لهم ولا هُم يحِلّون لهنّ ( ( الممتحنة : ١٠ ) فإنّ الأول يفيد أنّ نفي حِلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف، والثّاني يفيد أنّ نفي حِلّهم لهُنّ حكم متجدّد لا ينسخ، فهما اعتباران، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى :( واللَّه لا يحبّ كلّ كفّار أثِيم في سورة البقرة ( ٢٧٦ ).
" صفحة رقم ٨٩ "
ومنه سمّي الله تعالى : الديَّان، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى :( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( ( البينة : ٥ )، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القِسط الذي في قوله :( قل أمر ربي بالقسط ( كما قدمناه هنالك، و ) مخلصين ( حال من الضّمير في ادعوه.
وجملة :( كما بدأكم تعودون ( في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله :( مخلصين ( وهي حال مقدرة أي : مقدّرين عَودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم، وهذا إنذار بأنّهم مُؤاخدون على عدم الإخلاص في العبادة، فالمقصود منه هو قوله :( تعودون ( أي إليه، وأدمج فيه قوله :( كما بدأكم ( تذكيراً بإمكان البعث الذي أحالوه ؛ فكان هذا إنذاراً لهم بأنّهم عائدون إليه فمُجَازَوْن عن إشراكهم في عبادته، وهو أيضاً احْتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غيرَ الله، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدَفع موجب استبعادهم إياه، حين يقولون :( أإذا مِتنَا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون ( ( الواقعة : ٤٧ ) ويقولون ) أينا لمردودون في الحافرة أإذا كنّا عظاماً نَخِرة ( ( النازعان : ١٠، ١١ ) ونحو ذلك، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجبَ من خلقهم الأوّل كما قال تعالى :( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ( ( ق : ١٥ ) وكما قال :( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ( ( الروم : ٢٧ ) أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني، كما انفرد بخلقهم الأوّل، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئاً.
فالكاف في قوله :( كما بدأكم تعودون ( لتشبيه عود خلقهم ببدئه و ( ما ) مصدريّة والتّقدير : تعودون عوداً جديداً كبدئه إيَّاكم، فقدم المتعلِّق، الدّال على التّشبيه، على فعلِه، وهو تعودون، للاهتمام به، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعِيدة عن سياقها ونظمها.