" صفحة رقم ٩٠ "
٥ ) قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ).
استئناف ابتدائي بعد قوله :( إنَّ ما توعدون آتٍ ( ( الأنعام : ١٣٤ ) فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين، كما مرّ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم : وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد، لِيُمْلِيَ لَهُمْ في ضلالهم إملاء يشعر، في متعارف التّخاطُب، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقاً للعقوبة، واقتراباً منها. أمر الله رسوله ( ﷺ ) بأن يُناديهم ويُهَدّدهم. وأمر أن يبتدىء خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادَيْن، وكان المنادي عنوانَ القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله :( إنَّ ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين ( ( الأنعام : ١٣٤ ) لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه.
والنّداء : للقوم المعاندين بقرينة المقام، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد، وأنّ عملهم مخالف لعمله، لقوله :( اعملوا ( مع قوله ) إني عامل ).
فالأمر في قوله :( اعملوا ( للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيِّر ناصِحهم نُصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا، كقوله تعالى :( اعملوا ما شئتم ( ( فصلت : ٤٠ ) وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبَّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائهِ بالمأمور بأن يَفعل ما كان يُنهى عنه، فكأنّ ذلك المنهي صار واجباً، وهذا تهكّم.
والمكانة : المَكان، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام، والدارةُ اسماً للدار، والماءة للماءِ الذّي يُنزل حوله، يقال : أهل الماء وأهل المَاءة. والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء، تشبَّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء، كما تقدّم
" صفحة رقم ٩٠ "
و ) فريقاً ( الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال : إمَّا من الضّمير المرفوع في ) تعودون (، أي ترجعون إلى الله فريقين، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلاً بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب، ومعنى ) فريقاً هدى ( : أنّ فريقاً هداهم الله في الدّنيا وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة، أي في الدّنيا، كما دلّ عليه التّعليل بقوله :( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله (، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله :( مخلصين ( أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين : فريقاً هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك، وفريقاً دام على الضّلال ولازم الشّرك.
وجملة :( هدى ( في موضع الصّفة لفريقاً الأوّل، وقد حذف الرّابط المنصوب : أي هداكم الله، وجملة :( حق عليهم الضلالة ( صفة ) فريقاً ( الثّاني.
وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة، وتحذير من اتّباع الشّيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله :( هدى ( فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال :( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ( ( المجادلة : ٢٢ ) وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال :( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ( ( المجادلة : ١٩ ). وتقديم ) فريقاً الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل.
ومعنى : حق عليهم الضلالة ( ثبتت لهم الضّلالة ولزموها. ولم يقلعوا عنها، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين : فريقاً هداه الله إلى التّوحيد، وفريقاً لازم الشّرك والضّلالة، فلم يطرأ عليهم حال جديد. وبذلك يظهر حسن موقع لفظ :( حق ( هنا دون أن يقال أضلّه الله، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم، كما قال تعالى في نظيره :( فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة ( ( النحل : ٣٦ ) ثمّ قال ) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي


الصفحة التالية
Icon