" صفحة رقم ٩١ "
اطلاق الدّار آنفاً في قوله تعالى :( لهم دار السّلام ( ( الأنعام : ١٢٧ )، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه، فلذلك يقال :( يا فلان على مَكانتك ) أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرفْ عنه.
ومفعول ) اعملوا ( محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللاّزم، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ.
و ) عَلَى ( مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة. لأنّ العلاوة تناسب المكان، فهي ترشيح للاستعارة، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه. والمعنى : الزموا حالكم فلا مَطمع لي في اتِّباعكم.
وقرأ الجمهور :( على مكانتكم ( بالإفراد. وقرأه أبو بكر عن عاصم :( مَكانَاتِكم ( جمعَ مكانة. والجمع باعتبار جمع المضاف إليه.
وجملة :( إني عامل ( تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله :( اعملوا ( أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه، لكنّي مستمرّ على عملي، أي أنِّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله. وحذف متعلّق :( إني عامل ( للتّعميم مع الاختصار، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر.
ورُتِّب على عملهم وعَمَلِه الإنذارُ بالوعيد ) فسوف تعلمون ( بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد.
وحرف التّنفيس مراد منه تأكيد الوقوع لأنّ حرفَي التّنفيس يؤكّدان المستقبل كما تؤكّد ( قَدْ ) الماضي، ولذلك قال سيبويه في الكلام على ( لَن ) : إنَّها لنفي سَيفعل، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النّفي.
" صفحة رقم ٩١ "
من يضل ( ( النحل : ٣٧ )، فليس تغيير الأسلوب بين :( فريقاً هدى ( وبين ) وفريقاً حق عليهم الضلالة ( تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله، كما توهمه صاحب ( الكشاف )، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال.
وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى :( ومنهم من حقت عليه الضلالة ( ( النحل : ٣٦ ).
وقوله :( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ( استئناف مراد به التّعليل لجملة ) حقت عليه الضلالة ( ( النحل : ٣٦ )، وهذا شأن ( إنّ ) إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء، كما تقدّم غيرَ مرّة.
والمعنى أنّ هذا الفريق، الذي حَقت عليهم الضّلالة، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن، ولكنّهم استوحوا شياطينهم، وطابت نفوسهم بوسوستهم، وائتمروا بأمرهم، واتّخذوهم أولياء، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله.
وعطف جملة :( ويحسبون ( على جملة :( اتخذوا ( فكان ضلالهم ضلالاً مركباً، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أيمّة الكفر وألياء الشّياطين، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا، وأهملوا النّظر، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول ( ﷺ ) والحسبان الظنّ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن.