" صفحة رقم ٩٢ "
وهذا صريح في التّهديد، لأنّ إخبارهم بأنَّهم سيعلمون يفيد أنّه يعلم وقوع ذلك لا محالة، وتصميمه على أنَّه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدلّ على أنّه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم، ولولا ذلك لعَمِل عملهم، لأنّ العاقل لا يرضى الضرّ لنفسه، فدلّ قوله :( فسوف تعلمون ( على أنّ علمهم يقع في المستقبل، وأمّا هُو فَعَالِم من الآن، ففيه كناية عن وثوقه بأنَّه مُحِقّ، وأنَّهم مبطلون، وسيجيء نظِير هذه الآية في قصّة شعيب من سورة هود.
وقوله :( من تكون له عاقبة الدار ( استفهام، وهو يُعلِّق فعل العِلم عن العمل، فلا يعطَى مفعولين استغناء بمُفاد الاستفهام ؛ إذ التّقديرُ : تعلمون أحدَنا تكون له عاقبة الدار. وموضع :( من ( رفع على الابتداء، وجملة :( تكون له عاقبة الدار ( خبره.
والعاقبة، في اللّغة : آخر الأمر، وأثر عمل العامل، فعاقبة كلّ شيء هي ما ينجلي عنه الشّيء ويظهرُ في آخره من أثر ونتيجة، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال : عاقب الأمر، ولكن عاقبة وعُقْبى.
وقد خصّص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحَسَنَةِ، قال الراغب : العاقبة والعقبى يختصّان بالثّواب نحو ) والعاقبة للمتّقين ( ( الأعراف : ١٢٨ )، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو ) ثمّ كان عاقبة الّذين أساءوا السُّوأى ( ( الروم : ١٠ ) وقَلّ من نبَّه على هذا، وهو من تدقيقه، وشواهدُه في القرآن كثيرة.
والدّار الموضع الّذي يحلّ به النّاس من أرض أو بناء، وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى :( لهم دار السّلام ( ( الأنعام : ١٢٧ )، وتعريف الدّار هنا تعريف الجنس. فيجوز أن يكون لفظ ) الدار ( مطلقاً، على المعنى الحقيقي، فإضافةُ ) عاقبة ( إلى ) الدار ( إضافة حقيقية، أي حُسن الأخارة الحاصلُ في الدّار، وهي الفوز بالدّار، والفلج في النّزاع عليها، تشبيهاً بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمَراعي، وبذلك يكون قوله :( من تكون له عاقبة الدار (
" صفحة رقم ٩٢ "
وعطف هذه الجملة على التي قبلها، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين، فولاية الشّياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضاً، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل.
٣١ ) ) يَابَنِى
ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُو
اْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ).
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله :( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ( ( الأعراف : ٢٦ ).
وهذه الجملة تتنزّل، من التي بَعدها، وهي قوله :( قل من حرم زينة الله ( ( الأعراف : ٣٢ ) منزلة النّتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.
فالمقصد من قوله :( خذوا زينتكم ( إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة، وعند مساجد معيّنة، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه
وما بَدا منه فلا أُحِلُّه


الصفحة التالية
Icon